العقول الإلكترونية هل داعبت خيال الشعراء منذ العشرينيات من القرن المنصرم..؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 19:28:59

د. محمّد محمّد خطّابي

مدريد - (إسبانيا)

د. محمّد محمّد خطّابي *

 

هل سبق الشّاعر الإسباني، الأندلسي، الإشبيلي الكبير أنطونيو ماتشادو العقولَ الإلكترونية المنتشرة بيننا اليوم بشكل مذهل بما نراه اليوم من استعمالات عصرية واسعة للحواسيب، أو العقول الالكترونية، والآلات المتطوّرة التي تختزن كلّ ألوان  العلوم والمعارف الإنسانية بما في ذلك الشعر..؟!، يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال هو بالإيجاب..! إذ هناك مقال طريف للكاتب المكسيكي "مانويل دُورَان" حول أنطونيو ماتشادو يشير فيه أنّ هذا الشّاعر الذائع الصّيت قد سبق عصرَه، وبذّ زمانه حيث تنبّأ باختراعه العجيب عام 1925 بواسطة إحدى شخصيّاته الخيالية "ماكنة لكتابة الشعر".

كان أوسكار وايلد يقول حسب نظرية أرسطوطاليس القديمة: "إنّ الفنّ ليس هو الذي يقلد الطبيعة". ويقدّم الكاتب مانويل دوران دليلاً على ذلك بتخيّل أنطونيو ماتشادو أو اختراعه لماكنة تكتب الشّعر، وهو يشرح لنا كيف تعمل هذه الماكنة وكيف تكتب الشّعر في أسلوبٍ مرحٍ سلسٍ وجذاب، إلاّ أنّ هذه الماكنة لم يكن لها وجود سوى في عقل الشّاعر، والقصائد التي ينسبها ماتشادو لماكنته كتبها ماتشادو بنفسه، ومثل هذا الشّاعر الكبير لم يكن في حاجة في الواقع إلى أيّ آلة أو ماكنة لنظم الشّعر، وهذه الفكرة في حدّ ذاتها ووصف الشّاعر لهذه الماكنة  قد غدا أمرًا شبيهًا بالتكهّن أو استقراء المستقبل.

الخيال يغدو حقيقة

  ماكنة "الطروبار" أو "الطروبادور" (Z Z) أو النّظم التي تخيّلها ماتشادو في وقت مبكّر قد أصبحت حقيقة ماثلة أمامنا اليوم. وهكذا يستدلّ الكاتب "دوران" أنّ التكنولوجيا والتقدّم التقني إنما عملا على تقليد الفنّ، فنّ ماتشادو في هذه الحالة، وقدّم لنا هذا التطوّر التكنولوجي بالفعل  ماكنة لكتابة الشّعر، هذه المرّة ليس من باب السّخرية أو الدعابة أو الخيال كما فعل ماتشادو بل إنه أمر واقعي ملموس.

كان أنطونيو ماتشادو في الفترة المتراوحة بين (1928ـ 1930) يشعر بانجذاب كبير نحو كتابة الدّراسات، خاصّة الدّراسات الفلسفية، إلاّ أنّه على الرّغم من تقدّمه في هذا المجال فإنّه ظلّ لصيقًا مخلصًا لجيله الأدبي، وكان ماتشادو يقترب من الفلسفة كمن يدنو من أرض ملغومة، فقد أصغى إلى "بِرْغسُون" في كوليج دي فرانس، وقرأ "كَانْتْ" وفلاسفة آخرين كلاسيكيّين، إلاّ  أنّه مع ذلك ظلّ بعيدًا عن متاهات الفلسفة، وتعقيداتها العويصة، وبدل الخوض في هذا السّبيل عمد ماتشادو إلى إيجاد "لعبة معقّدة "جديرة بأن تشكّل عنصرًا مهمًّا من عناصر قصص خورخي لويس بورخيس، بل إنّه قد سبق حتى القصص البورخية نفسها، ولمواجهة هذه المسائل الفلسفية من منظور أدبي أو شعري بحث أو فكّر في إيجاد ماتشادو، ماتشادو آخر إلاّ أنّه أطلق على هذا الآخر اسم "أبيل مارتين"، وهذا الشّخص الثاني ينشئ بدوره شخصًا آخر ينحدر أو ينسلخ عنه وهو خوان دي مايرنيا (صوت الشاعر) ولهذا الأخير صديق وهو "خورخي منيسيس" الذي بعد عدّة سنوات من  الكد،ّ والتعب، والتأمّل أمكنه اختراع آلة أطلق عليها اسم "ماكنة الطروبار" وهي في شكل "روبوت"  بإمكانها كتابة الشّعر، لم تتوقف اللّعبة عند هذا الحدّ، بل إنّ ماتشادو قد لجأ إلى إنشاء اثني عشر شخصًا آخرين ظلّوا حبيسي خيال الشّاعر وأوراقه. هؤلاء الأشخاص هم المكلّفون بكتابة أو نسخ الشعر الذي يمليه ماتشادو عليهم، و لكلّ واحد من هؤلاء شخصية معيّنة محدّدة لها مكان وزمان الولادة الخاصّة بها. لعبة ماتشادو لها جانب آخر جدّي فهو بواسطة شخصيّة "خوان دي مايرنيا" الآنف الذكر (صوت شيطانه الشعري) يرى العالم ويتأمّل فلسفته، والشّعر عنده هو بذرة الحياة، وينبوعها الأوّل والكلمة الأساسيّة في الزّمن.

الوجود والعدم

الوجود والعدم  يشكّلان مشكلة فلسفيّة، ويشكّل الزّمن هو الآخر في آن واحد تجربة إنسانية ووجودية وتجربة فلسفية أيضًا، وهكذا يتطلّب من "مايرنيا" تأمّل مشاكل العالم، والوجود، والعدم، والشعر، والأدب، والعلم، والمعرفة، في حين أننا نجد "مينسيس" (مخترع ماكنة الشعر) الذي يقوم بدور الناقد الأدبي والاجتماعي وهو يفسّر لنا أنّ الشّعر هو ليس بالأمر الهيّن أو السّهل اليسير، بل إنّه مسؤولية صعبة و عسيرة، ويشرح لنا كيف أنّ الشّعر في عالم اليوم يعيش أزمة حقيقية نظرًا لبعد الشّعراء ونأيهم عن مشاكل الحياة والمجتمع، وعن الحقيقة وانغماسهم في فرديتهم وفي مشاكلهم الخاصّة.

ويعتقد منيسيس (ومعه ماتشادو) أنّ الشّاعر اليوم فقد صلته بالجماهير والجموع والقرّاء و ينبغي تجاوز هذه الأزمة، وعليه فإنّ "ماكنة الطروبار" أو ماكنة الشعر سوف تسهم في حلّ هذه الأزمة، وهذه الماكنة هي جهاز حسّاس بإمكانه تسجيل، بشكل موضوعي، الوضع الانفعالي والعاطفي  لجماعة من الناس، مثلما يسجّل تيرموميتر درجة الحرارة أو الضّغط الجوي !.

لا يخبرنا الشّاعر ماتشادو متى وكيف وأين تمّ برمجة هذه الماكنة، إلّا أنّ الأشعار والكلمات التي تنتجها هي شبيهة وتضاهي إلى حدّ بعيد الأشعار والأغاني الأندلسية. يصف ماتشادو ماكنته الشّعرية بأنّها ماكنة ديموقراطية وشعبية وهي بمقدورها تسجيل حالات انفعالية بشرية مرهفة قد تستعصي على الشّخص العادي، وهذه الماكنة يمكنها أن تشغل وتلهي الجموع والجماهير، بل والتعبير عن مشاغلها وتطلّعاتها لحين ظهور شعراء جدد ذوي مقدرة حقيقية على قرض الشعر. إنّ ماتشادو عندما يصف ماكنته بأنّها "ديموقراطية وشعبية"  فإنّه لا يقصد من قريب أو بعيد النظريات الروسيّة الستالينية في هذا القبيل، ففي المدّة المتراوحة بين عام (1928ـ 1930) لم تكن هذه قد ظهرت بشكل واضح، كلّ ما في الأمر أنّ الشّعر الإسباني في هذه الفترة كان يمرّ بمرحلة خاصّة من التشكّك والبحث عن الذّات، ويفسر ذلك الإبداعات الشعرية  لبابلونيرودا في تشيلي، ورفائيل ألبرتي وفيدركو غارسيا لوركا في إسبانيا.

الشّعر والسّياسة

 إنّ ماتشادو عندما اخترع ماكنته الشعرية إنما كان يتوق إلى إيجاد لغة شعبية سهلة ومبسّطة بعيدة عن الغموض والتعقيد، قريبة من لاوعي الشعب ومن التيّارات السّوريالية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، بل إنّ الماكنة قد حقّقت غاية سوريالية واضحة وهي أنّ الشعر ينبغي أن يكتب من طرف الجميع وليس من طرف شخص واحد.

إلاّ أنّ أكبر مفاجأة تباغتنا بها هذه الماكنة الشعرية هي أنّ هذه الآلة العصرية المتطوّرة تقدّم لنا في الأخير نتاجًا شعريًّا غير عصري، بل إنّه نتاج تقليدي وشعبي أصيل. ومع ذلك فإنّ هذه الماكنة تتماشى وتساير التطوّر الذي يعرفه الشّعر، حيث كان الشّعراء يلجؤون إلى تبسيط وتيسير تنقية أساليبهم نظرًا لطغيان السياسة عليهم في ذلك الوقت مثلما هو عليه الشأن بالنسبة لنيرودا و ألبرتي على سبيل المثال وليس الحصر.

وهذا الاتجاه لتبسيط الشّعر هو الذي سيسود بالفعل بعد الحرب الأهلية الإسبانية بالخصوص لدى بعض الشّعراء منهم "غابرييل سيلايا" و"بلاس دي أوتيرو" إلاّ أنّ أشعار هذين الشّاعرين وسواهما من الشّعراء لم تدرك مستوى ولا رقّة ولا عذوبة ولا سهولة أشعار ماكنة ماتشادو، فضلاً عن ميزتها الجماعية وصفتها الغنائيّة. إنّ الماكنة أو الأسطوانة الحقيقية أو الأقراص المُدمجة الموجودة اليوم تفوق ماكنة ماتشادو فقط  بكونها موجودة بالفعل بخلاف ماكنة الشّاعر الأندلسي التي لم يكن لها وجود سوى في مخيلته، وإنّ" ماكنات" اليوم على الرّغم من رونقها و جمالها  وتطوّرها فهي جامدة تكرّر أشعارًا ركيكة  مُسجّلة، في حين كانت ماكنة ماتشادو تنبض بالحياة والإبداع المتجدّد والعطاء المتدفّق العميق . ماكنة ماتشادو حتّى وإن لم يكن لها وجود فعلي في الواقع فهي تعكس أعمق المشاعر الإنسانية، وأرقّها وأعذبها وأنبلها. إنّها مرآة ذات وجهين وجه  مرح و تفاؤلي، ووجه آخر حزين و تشاؤمي.

ولد الشاعر أنطونيو ماتشادو فى مدينة إشبيلية عام 1875، وتوفّي في الثاني والعشرين من شهر فبراير (شباط) عام 1939.

 نماذج من شعر ماتشادو

 يقول 'ماتشادو' عن نهر "الوادي الكبير" (Z Z Z) الذي يشقّ الأراضي الأندلسيّة، والذي ما زال يحملُ اسمه العربيَّ القديم حتّى اليوم، وهو يُنطق في اللغة الإسبانية تمامًا كما نطقه بالأمس، وينطقه اليوم أبناءُ، وأحفاد لغة الضّاد El río Guadalquivir (الوادي- الكبير al-wadi al-Kabir) يقول عنه ماتشادو :

 ألمْ تَرَ سلسلةَ جبال كَاسُورْلاَ

حيث يُولد الوادي الكبير

بينَ الحِجارة قطرةً، قطرة

هكذا تتولّد أغنية

مثلَ هذا النّهر

المُنساب نحوَ قرطبة

ثمّ صَوْبَ إشبيلية

وأخيرًا يضيعُ في اليَمِّ

الزّاخر العَميق.

 ويقول في رثاء شاعرٍ صديق:

 آه، نعم، احملوا يا أصدقائي

جثمانَه إلى الآكام العالية

إلى الجبال الزرقاء

إلى سهل "وادي الرّحمة"

بين الوِهَاد المنخفضة

وأشجارِ الصّنوبَر الخَضْراء

وغناءِ الريّاح

ليرتاحَ قلبُه

تحت شجرةِ بلّوط عتيقة

في أرضٍ

تلهو فيها

فراشاتٌ مُذهّبة.

 ومن شعره الجميل قصيدته "الدّفلى" التي يقول فيها متباهيًا ومفتخرًا بأصله ومحتدة:

 أنا مثل هؤلاء القوم

الذين إلى أرضي

قَدِمُوا،

أنا من أرومة محتد

المغاربة الأقحاح

أصدقاء الشمس

منذ أقدم العهود،

الذين ظفروا بكلّ شيء

والذين خسروا كلّ شيء

لي روحٌ من سُنبل الطّيب

روحُ العربيّ الإسبانيّ.

 

الهوامش:

(*) كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوتا- (كولومبيا).

 (**) الاسم الذي اختاره الشاعر الأندلسي  الكبير أنطونيو ماتشادو لماكنته الشعرية التي تخيّلها هو "الطروبار"، لاشكّ أنّه مُستوحىً من مُصطلح "الطربادور" فقد اشتهرت في أوربا فِرَقٌ كانت تهيم على نفسها وهي تؤدّي نغمات موسيقية وشعرية وهي فرق الطروبادور التي يرجع أصلها إلى اللغة العربية وهي فرق أو مجموعات (دور الطرب) التي كانت تجول في إسبانيا وفرنسا في القرن العاشر. ويؤكّد المستشرق "كليمان هوارث" أنّ مسلمي الأندلس كانوا أساتذة الطروبادور في فنون القوافي والأوزان الشعرية، والأنغام الموسيقية، وإليهم يرجع الفضل في الأندلس في نقل الأسلوب العربي في الوزن الشعري، والإيقاع الموسيقي إلى أوروبا عبر جنوب شرق فرنسا من خلال أغاني الشّعراء المتجوّلين (الطروبادور) لتغيير أسلوب الشّعر، والموسيقى الأوروبية إلى أسلوب عصريّ متطوّر.

 (***) قصائد أنطونيو ماتشادو أعلاه من ترجمة كاتب هذه السّطور عن الإسبانية، وهي مُدْرَجَة في كتابي أنطولوجيا الشعر الأمريكي اللاّتيني المعاصر الذي تحت عنوان: (حَجَر الشّمس ..ثلاثون قصيدة في الشّعر الأمريكي اللاّتيني المعاصر) الصّادر عام 2000 عن المجلس الأعلى للثقافة – المشروع القومي للترجمة- القاهرة- الرقم الترتيبي 172.


عدد القراء: 4420

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-