إروين شو الذي لا نعرفهالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-06-15 20:00:58

جودت هوشيار

موسكو

لا أميل إلى قراءة أدب الحرب، أو مشاهدة الأفلام الحربية، فقد أتخمنا بمئات الروايات والأفلام عن الحروب، التي لم تتوقف يومًا في التأريخ البشري، ولكنها باتت أكثر بشاعة، مع تطور آلة القتل. وضاع عمر جيلنا في أجواء الحروب، ما أن نخرج من حرب، حتى تداهمنا حرب جديدة أشد ضراوة من سابقتها، وليست ثمة حروب جيدة، وأخرى سيئة،  كما تزعم البنتاجون، فهي كلها مآسي ودماء ودموع.

كانت رواية " الأشبال" هي أول ما وقع في يدي من نتاجات الكاتب الأمريكي "إروين شو" و"الأشبال" عنوان، لا تشمّ منه رائحة الحرب، ويتبادر إلى الذهن، أنها ربّما رواية عن الحيوانات، أو الصيد في مجاهل أفريقيا. ولم أكن أعرف أن شو، أعد لنا – نحن الذين لا نقرأ أدب الحرب – مقلبًا ذكيًّا ومثيرًا. فما أن تبدأ بقراءة الصفحات الأولى منها، حتى تجد نفسك أمام شخصية جذّابة - فتاة أمريكية جميلة تظهر في الفصل الأول من الرواية، ثم تصحبك من جديد في بعض الفصول الأخرى، لتجد نفسك في أجواء أشرس معارك الحرب العالمية الثانية، وتتابع بشغف مصائر الشخصيات الرئيسية للرواية، وهم ثلاثة جنود – أمريكان اثنان وثالث ألماني.

ولد شو في عام 1913 في نيويورك في أسرة مهاجر أوكراني. وهو ينتمي إلى الجيل التالي لجيل الكتاب الأمريكيين العظام: فيتزجيرالد، وهمنغواي، وفوكنر، وتوماس ولف، ودوس باسوس. ويمكن القول إن شو، ووليم سارويان، والكاتب الزنجي، ريتشارد رايت، والكاتب المسرحي ليليان هيلمان، وروبرت بين أورين، هم في طليعة الكتّاب الأمريكيين، الذين بدأوا حياتهم الأدبية في النصف الثاني من الثلاثينيات، ومن أكثرهم موهبة وشهرة. كانت الولايات المتحدة تعاني في هذه الفترة من الآثار العميقة للأزمة الاقتصادية، التي هزت البلاد في أوائل الثلاثينيات. وهي سنوات زاخرة بالأحداث الجسام، ليس في حياة المجتمع الأمريكي فحسب، بل وفي حياة المجتمعات الأوروبية أيضًا. كان الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يخطط لنهج سياسي جديد. وفي أوروبا كانت النازية الألمانية تحلم بالمجال الحيوي، وبوادر الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق – في مثل هذا المناخ بدأ شو حياته الأدبية، وسرعان ما لفت إليه أنظار النقاد والقراء على حد سواء، ككاتب مبدع يمتلك وعيًا عميقًا وحسًّا مرهفًا إزاء التناقضات الاجتماعية وهموم الملايين من الناس البسطاء.

لقد أثبت شو منذ خطواته الأولى في عالم الأدب، أنه صاحب أسلوب متفرد، وموهبة أصيلة  وذلك عندما نشر في عام 1936 مسرحية ذات فصل واحد تحمل عنوان "ادفنوا الموتى"، التي سلطت الأضواء على الكاتب، وترجمت في السنة ذاتها إلى اللغة الروسية ونشرت في مجلة "نوفي مير" السوفيتية الشهيرة. وهي إحدى المسرحيات التي اختارها الناقد المسرحي والمنظر الجمالي الأمريكي "جاستر" ونشرها ضمن كتاب "أفضل عشرين مسرحية معاصرة".

كتب شو هذه المسرحية، في وقت أخذ فيه شبح الحرب القادمة يخيّم على أوروبا. وتدور أحداث المسرحية حول خمسة من الجنود القتلى، الذين يرفضون الموافقة على دفنهم. وهي إدانة قوية للحروب على مر العصور. وقد شرح "إروين شو" هدفه من كتابتها في مقال نشره في جريدة "النيويورك تايمز" قال فيه:

«هذه أول مسرحية يكتبها شاب لا يريد أن يقتل، ويعتقد أن هناك عددًا كبيرًا من الشبان يشاركونه الرغبة نفسها، ويتمنى لو أثرت فيهم هذه المسرحية، لأنه سيأتي وقت عما قريب يطلب فيه من هؤلاء الشبان أن يغامروا بحياتهم في قتال محفوف بالمخاطر، سينتهي بأن تقضى عليهم أجهزة الحرب الضخمة التي أعدت إعدادًا ممتازًا». المؤلف يعبّر هنا، عن موقفه الرافض للحرب بلسان الجنود القتلى الثائرين الذين يخاطبون الجمهور في صالة المسرح.

وفي عام 1937 نشر شو مسرحية "الحصار" وهي مسرحية مناهضة للفاشية. ثم جاءت مسرحية "حياة بروكلين الرغيدة " (1939) لتوطد مكانة شو ككاتب مسرحي مرموق. ولقد اقتفى شو في هذه المسرحية أثر الكاتب الأمريكي "دشيل هاميت" الذي نشر في أوائل الثلاثينيات عدة روايات سيكولوجية حادة وفاضحة عن عالم الجريمة المنظمة، منها "صقر مالتا" (1930) و"المفتاح الذهبي" (1931).

وفي الفترة ذاتها أخذ إروين شو ينتزع الاعتراف به كقاص موهوب، فامتدت شهرته وازدادت مكانته الأدبية رسوخًا، فأخذت كبريات المجلات الأمريكية في ذلك الوقت مثل مجلة "نيويوركر" ومجلة "اسكواير" ترحب بنشر قصصه القصيرة. وفي عام 1939 جمع شو هذه القصص في كتاب أصدره تحت عنوان "بحار من بيرمن" وبعد ثلاث سنوات أصدر مجموعته القصصية الثانية "مرحبًا بالقادمين إلى المدينة الكبيرة" وفي السنة ذاتها التحق شو بالجيش الأمريكي كجندي بسيط، ثم أصبح مراسلاً حربيًا، وقام بتغطية سير معارك الحرب العالمية الثانية في شمال إفريقيا، وفي إنجلترا وفرنسا وألمانيا.

لقد تركت هذه الحرب الطاحنة آثارًا بالغة في حياة وأدب شو وأمدته بتجارب خصبة أصبحت مادة أولية لروايته الأولى "الأشبال" ( 1948) التي احتلت فور صدورها، رأس قائمة الكتب الأكثر رواجًا، وقوبلت باهتمام عظيم، لا يقل عن الاهتمام الذي حظيت به رواية نورمان ميلر "العراة والموتى" (1948). ويمكن القول إن هاتين الروايتين بالإضافة إلى رواية د. جونس "من هنا إلى الأبد" (1951) ورواية د.هولر الساخرة "المصيدة -22" (1961) تعتبر من أفضل الروايات التي كتبت عن الحرب العالمية الثانية . .

وقد قارن البعض رواية "الأشبال" برواية ليف تولستوي "الحرب والسلام" مما أثار غضب النقاد والأدباء الأمريكيين وبضمنهم همنغواي، الذي سخر من هذه المقارنة وأطلق على شو – في إحدى رسائله – اسم "تولستوي بروكلين". فرد عليه شو قائلاً: بابا همنجواي لا يعجبه من يدخل إلى ساحته الأدبية، التي يعتبرها من ممتلكاته الخاصة". ويقصد شو بها التعليق أن همنغواي كتب أيضًا عن الحرب، ولا يريد أن ينافسه أحد في هذا المضمار.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتنافس فيها الكاتبان. فقد قال همنغواي أنه حرّر فندق "رتس" في باريس خلال الحرب العالمية الثانية. أما شو فقد كان يتفاخر بأنه حرّر مقهى "تيب توب" في مونتي كارلو "وإنه  أول من دخل "موناكو" مع وحدة من الجنود الأمريكيين في سبتمبر عام 1944 . وقبل ذلك بعدة أشهر، عندما كانت لندن تتعرض إلى قصف الطائرات الألمانية كان شو يمر بتجربة حب حميمة مع المراسلة الحربية "ماري ويلش"، ففي أيار عام 1944 عندما كان شو، وويلش في أحد مطاعم لندن، اقترب همنغواي منهما، وطلب من شو تقديمه إلى صديقته الشقراء الساحرة. وسرعان ما وقع همنغواي في غرامها، وبعد أن تحررا من ارتباطاتهم الزوجية السابقة، توّجت هذه العلاقة بالزواج عام 1946، وأصبحت زوجته الرابعة والأخيرة. وفي وقت لاحق صوّر شو شخصية ويلش بسحرها المدهش في رواية "الأشبال" تحت اسم لويز.

شو- كاتب بالغ الثراء والخصوبة فقد كتب خلال الخمسينيات والستينيات أربع روايات أخرى هي: "الهواء المضطرب" (1950) و"لوسي كراون" ( 1956" و"أسبوعان في مدينة أخرى" (1960) و"اصوات يوم صيفي" ( 1965). وعشر مجموعات قصصية أصدرها في الفترة ذاتها تقريبًا منها: "جماعة مختلطة" ( 1950) و "رهان على ميت" (1957) و"حب في شارع مظلم" (1965). 

في عام 1951، غادر إروين شو الولايات المتحدة إلى أوروبا، حيث عاش لمدة 25 عامًا، لا سيما في باريس وسويسرا. وكتب شو العديد من السيناريوهات لأفلام ناجحة أنتجت في هوليوود رشح بعضها لجائزة الأوسكار.

"رجل غني، رجل فقير" من أفضل روايات إروين شو، وقد صدرت عام 1970، وتتناول قصة عائلة مهاجر ألماني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، دمّر أفرادها أنفسهم، لأنهم آمنوا بالمثل الأمريكية والقيم الزائفة، وظنوا أن المال يجعلهم سعداء. وقد حوّلت الرواية إلى مسلسل تلفزيوني ناجح في أمريكا عام 1976 وفي ليتوانيا عام 1982.

وبعد صدور هذه الرواية الرائعة، كتب شو ست روايات أخرى "مساء في بيزنطة" (1973)، "عمل ليلي" ( 1975)، و"اللص المتسول" (1977)  و"قمة التل" (1979), "خبز فوق الماء" (1981)، و"الخسائر المقبولة" (1982) ولكنها قوبلت ببرود من قبل  النقاد رغم نجاحها الجماهيري. ويمكن القول أن النقاد لم يكونوا منصفين مع شو أحيانًا، فهم ينتقدونه لافتقاد هذه الروايات إلى العمق السيكولوجي المطلوب، رغم اعترافهم بأسلوبه الشائق وقصصه المتقنة البناء.

 وينبغي أن لا ننسى بأن القراء هم الذين يحددون مصائر الكتب، لا النقاد أو الأكاديميين. أعمال شو كانت وما تزال تلقي رواجًا كبيرًا في العالم الغربي وأوروبا الشرقية، وترجمت إلى ثلاثين لغة من أهم لغات العالم، وصدرت مؤلفاته الكاملة في ثمانية أجزاء مترجمة إلى اللغة الروسية، إضافة الى طبعات متفرقة لرواياته ومجاميعه القصصية. وبلغ إجمالي ما تم بيعه من كتبه أكثر من 14 مليون نسخة في أنحاء العالم، وعرضت مسرحياته على مسارح واشنطن وباريس وموسكو والقاهرة.

إن نتاجات شو متفاوتة القيمة والمستوى من الناحية الفنية، وربما كانت القصة القصيرة، هي أكثر الأجناس الأدبية التصاقًا بموهبته ككاتب. أما رواياته الطويلة فإنها لا تخلو أحيانًا من بعض النبرات الميلودرامية، والترهل اللفظي، والإغراق في التفاصيل. بيد أن هذه المآخذ لا تقلل كثيرًا من قيمة رواياته، ذلك لأن ما يشغل بال الكاتب دائمًا هو القضايا الأساسية التي يواجهها الإنسان المعاصر، وخاصة في مجتمع متطور كالمجتمع الأمريكي. دور المواطن الأمريكي العادي في النضال ضد الفاشية في "الأشبال" والزيف السياسي والروحي للمكارثية في "الهواء المضطرب" ومسؤولية الفنان إزاء المجتمع وإزاء موهبته في "أسبوعان في مدينة أخرى".

وتتميز قصص شو القصيرة بمستوى فني رفيع، ودرجة عالية من الرهافة والشفافية. وليس من الصعب على القارئ أن يلحظ أن شو يستخدم هنا تجربته المسرحية على نحو بارع؛ الحبكة المتماسكة، والتناسب الهندسي الدقيق، والحوار المتقن، ولهذا السبب بالذات نجد أن كثيرًا من قصصه القصار قد حولت إلى أفلام سينمائية ناجحة. ويفضل شو – شأنه في ذلك شأن الكثير من الكتاب الأمريكيين المعاصرين، أسلوب "الجبل الجليدي" الموضوعي . فالمؤلف لا يتدخل مطلقًا في القصة، بل يترك المواقف والشخصيات لتعبر عما يريد الكاتب أن يصوره لنا. وتمتلك النماذج، التي يصورها الكاتب، دفء الحضور في عالم مليء بالتناقضات، وبالقلق والحزن والتوتر أحيانًا، وان كان لا يخلو من أمل غامض. وهذا الأمل هو الذي يضفي على نتاجات شو، ذلك التفاؤل الذي يساعد أبطال قصصه ورواياته ومسرحياته على التماسك والاستمرار في الحياة بالرغم من كل شيء. .

حاز إروين شو على العديد من الجوائز منها: جائزة أو. هنري، التي فاز بها مرتين، وجائزة الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب. وتوفى في دافوس بسويسرا عام  1984.

كلمة أخيرة

إروين شو: يكاد يكون مجهولاً للقارئ العربي. وقد كنا أول من ترجم إحدى قصص هذا الكاتب في منتصف السبعينيات، وهي قصة "الضفاف المشمسة لنهر الزمن" التي نشرت عام 1975 في العدد (14) من مجلة "الأديب المعاصر" الفصلية، الصادرة عن اتحاد الأدباء في العراق. وهي قصة طويلة نسبيًّا¬¬، وتعد من أجمل قصص شو، التي تحرك مشاعر القارئ وتدفعه إلى تأمل الحياة بنظرة جديدة.

ومنذ نشر تلك القصة وحتى يومنا هذا، لم يترجم إلى العربية سوى كتابين فقط - من إجمالي خمسين كتابًا نشرها شو خلال حياته الأدبية – وهما:

1 - مسرحية "ادفنوا الموتى" التي ترجمت إلى اللغة العربية تحت عنوان "ثورة الموتى" وصدرت عن وزارة الثقافة المصرية في أواخر التسعينيات، وتم إخراجها وعرضها على أحد مسارح القاهرة في ذلك الحين، وأعيد عرضها، في ديسمبر عام 2017 على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة.

2 - رواية "خبز فوق الماء" ترجمها الأستاذ نبيل وهبي، وصدرت عن دار علاء الدين عام 2007. 

ونكاد نجزم - استنادًا إلى التتبع الدقيق لما كتب ويكتب عن الأدب الأمريكي في العالم العربي - أن مقالنا هذا أول محاولة لتقديم صورة شاملة عن إروين شو ومجمل أعماله إلى القارئ العربي.


عدد القراء: 4632

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-