أطروحة موت الواقع بين الفضاء الفلسفي وعوالم السينماالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-10-11 18:58:33

أ.د. بدر الدين مصطفى

أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة

كتب الفيلسوف الألماني (لودفيج فويرباخ 1804 - 1872) Ludwig Feuerbach في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه جوهر المسيحية Das Wesen des Christentums 1841 "ولا شك أن عصرنا يفضل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثل على الواقع، المظهر على الوجود، وما هو مقدس بالنسبة له، ليس سوى الوهم، أما ما هو مدنس، فهو الحقيقة. وبالأحرى، فإن ما هو مقدس يكبر في عينيه بقدر ما تتناقص الحقيقة ويتزايد الوهم، بحيث أن أعلى درجات الوهم تصبح بالنسبة له أعلى درجات المقدس". وكان ذلك استشرافًا منه لمستقبل قريب احتلت فيه الصورة مكان الصدارة في المشهد الثقافي المعاصر. عبارة فويرباخ تحمل من ضمن ما تحمل تعريفًا للنسخة يخلع عليها صفات الوهم والتضليل والكذب والخداع، ورغم سلبية هذه الصفات إلا أنها تبدو، أي النسخة، أكثر إغراء وقدرة على جذب قطاعات عريضة من الجماهير. هذا الإغراء مردة الرئيس تحرر النسخة من اشتراطات الواقع وقيوده وقابليتها غير المحدودة للتعديل، خاصة مع غياب الأصل الذي يمكن الاحتكام إليه.

في عام 1972 قدم المخرج الروسي أندرية تاركوفسكي Andrei Tarkovsky فيلمًا بعنوان سولاريس Solaris. يركز هذا العمل الكلاسيكي على رحلة عالم النفس كريس كلفن إلى محطة فضائية تحوم فوق الكوكب الغامض سولاريس، للتحقيق في الأسباب الكامنة وراء عدم استجابة الطاقم المفاجئة لتعليمات المحطة الأم. وبينما كان على متن السفينة، شعر بالصدمة عندما اكتشف أن زوجته الراحلة قد ظهرت على متنها. ثم نفهم تدريجيًا أن السبب وراء هذا الظهور أن الكوكب يقرأ ما بداخل من هم على متن السفينة ويجسد لهم ذكرياتهم في صورة واقعية تبدو حقيقية. لهذا تظهر نسخ من ذكريات كل من بداخل السفينة، نسخ دقيقة لا يمكن تمييزها تقريبًا عن أصولها الفعلية. يستعرض الفيلم رد كلفن على هذه المحاكاة. يقاوم في البداية ثم يقع أسيرًا لنسخة زوجته. في النهاية يختار أن لا يعود إلى الأرض وبدلاً من ذلك ينزل إلى سولاريس، ويقبل بعالم المحاكاة كبديل لعالمه الحقيقي.

في وقت مقارب من عصر فيورباخ كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه  (1844 - 1900) في كتابه أفول الأصنام  Götter-dämmerung"لقد نفينا العالم الحقيقي، فأي عالم بقى؟ ربما هو العالم الظاهر؟!..لكن لا! إننا مع نفينا للعالم الحقيقي نفينا كذلك العالم الظاهر". مقولة نيتشه تلك جاءت في سياق نقده لمفهوم الحقيقة والأشكال التي اتخذتها طوال التاريخ والطرق التي استخدمت من خلالها لممارسة التضليل تحت شعار "امتلاك الحقيقة المطلقة". وعبارة نيتشه السابقة التي استخدم فيها ضمير الجمع للإشارة إلى ذاته، وهي الطريقة المعتادة له في التعبير، يسعى لأن يقول من خلالها أن فلسفته تخلو من الثنائيات التي دأب العقل البشري على التفكير وفقًا لها (منطق إما أو). لا مجال لثنائية الظاهر والباطن أو الحقيقي والمزيف، فالعالم هو هذا العالم الذي نعيشه ولا يمكن معرفته من خلال مقابلته بعالم آخر. وهو عالم نسبي يتوقف معناه على زاوية النظر التي أنظر إليه من خلالها. ومن ثم لا وجود لمعنى مطلق أو حقيقة كلية يمكن الاستناد عليها في أي شيء.

قديمًا في القرن الرابع قبل الميلاد أراد أفلاطون (427 - 347 ق.م) أن يقدم رؤية تراتبية للوجود تستند على مفهوم المثال في فلسفته. تقوم أنطولوجيا أفلاطون على تراتبية واضحة، تشبه إلى حد كبير التراتبية المعرفية التي كانت سائدة في المجتمع اليوناني إبان حياته. إذا بدأنا بالتمييز الأفلاطوني بين الجوهر والمظهر، المفهوم عن المدرك، الفكرة عن الصورة، الأصل عن النسخة، والنموذج عن الشبيه؛ فإننا نلحظ بداية أن هذا الثنائيات غير متكافئة. حيث أنها تتردد بين نوعين من الصور. فالنسخ موجودات ثانوية، إنها متظاهرات ذات أساس راسخ أي تبدو متطابقة مع الأصل؛ أما النسخة المزيفة، التي أطلق عليها أفلاطون السيمولاكر Simulacrum، فهي متظاهرات زائفة تتأسس على اللاتشابه. وبهذ المعنى نجد أفلاطون يقسم العلاقة بين النماذج– الصور الى قسمين: فهناك من ناحية العلاقة بين النسخ والأيقونات Copies- Icons، وهناك من ناحية أخرى العلاقة بين السيمولاكر والاستيهامات  Simulacrum- fantasmes.

غير أن مفهوم النموذج عند أفلاطون، لا يتدخل هنا كي يقابل عالم النسخ ويتعارض معه. إنه يتدخل كي ينتقي النسخ الجيدة التي تشبه الأصل في صميمه وباطنه، أي الأيقونات ، ويستبعد النسخ الرديئة أي السيمولاكرات "إن التمييز القائم بين "النموذج" و"نسخته" يخفي تمييز آخر. التمييز بين صورتين، حيث النسخ "الأيقونات" لا تمثل إلا الصورة الأولى. أما الصورة الأخرى فهي "الشبيه" أو السيمولاكر. الفرق بين الأيقونة والسيمولاكر، أن الأولى نسخة تتمتع بالتشابه، أما الثاني فبلا تشابه. الأيقونة تقوم على الشبه والوحدة مع النموذج، أما السيمولاكر فيقوم على الاختلاف وينطوي على اللاتشابه. الأيقونة تكرر النموذج والسيمولاكر يخونه". سينتج عن هذا التحديد أن المقابلة الأساسية عند أفلاطون ليست بين النموذج والنسخة؛ وإنما ستصبح محصورة في عالم النسخ ذاته. ولا يتدخل النموذج إلا كمعيار للتمييز بين النسخ والمفاضلة بينها، وانتقاء الأفضل واستبعاد غيره "يتعلق الأمر بضمان انتصار النسخ على السيمولاكرات، وقمع هاته الأخيرة وضبطها وطمسها وتركها تحت القيود، والحيلولة بينها وبين أن تطفو على السطح لتفرض نفسها في كل الأنحاء".

كان الدافع المحرك لنظرية المثل عند أفلاطون  هو رغبته في الاختيار والانتقاء. ولن يتسنى له ذلك ما لم يميز ويفرق أولاً بين الحقيقة والمظهر، بين المعقول والمحسوس، بين المثال والصورة، بين الأصل والنسخة، بين النموذج والنسخة المزيفة. والخلاصة أن السيمولاكر في فلسفة أفلاطون يشير إلى نسخة مزيفة من الشيء، توحي بأنها حقيقية لأنها لا تستند إلى نموذج يمكن مقارنته بها ومن ثم اكتشاف زيفها. إنها نموذج في ذاتها، لكنها نموذج مزيف إذا جاز التعبير. والمثال البارز الذي يقدمه أفلاطون في فلسفته لهذا النموذج المزيف هو مثال السفسطائي الذي يظهر الحكمة والورع ويقدم نفسه بوصفه نموذج للحكيم وهو أبعد ما يكون عن ذلك، إنه مزيف في جوهره ويكتسب شكلاً مخادعًا، ولهذا يمتلك القدرة على التضليل وممارسة الخداع، وهو ما كان سائدًا في المجتمع اليوناني آنذاك.

 في ستينيات القرن العشرين يلتقط المفكر الفرنسي ماركسي التوجه غي ديبور (Guy Debord (1994 - 1928 الخيط من أفلاطون، ومن بعده فويرباخ ونيتشه، ليكتب كتابه مجتمع الاستعراض La société du spectacle 1967. في هذا الكتاب يؤكد ديبور أن التراكم الرأسمالي في المجتمعات الصناعية الراهنة قد أدى إلى تضاؤل الحقيقة والواقع وراء تراكم كثيف من التمثيلات التي تحل محل الأصل "في المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها برمتها على أنها تراكم كثيف من الاستعراضات وكل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد متحولاً إلى تمثيل Representation". هذا التراكم لسيادة الزائف وغلبته بحيث غدا الحقيقي جزء منه "في العالم المقلوب واقعيًا رأسًا على عقب، يغدو ما هو حقيقي لحظة من لحظات ما هو زائف". وبالنسبة لديبور فإنه لا يزال هناك مجال لاغتراب الذات بالمعنى الكلاسيكي، ومن ثم هناك فرصة لأن تستعيد تلك الذات استقلالها وتتعرف على نفسها مادامت تتخذ من النقد سلاحًا لها.

يتلاقى هذا التراث الفلسفي الطويل حول ثنائية الحقيقي/المزيف ويحتشد في الأطروحة التي قدمها الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (Jean Baudrillard (1929 - 2007 عن موت الواقع. وقد شاع استخدام مصطلح سيمولاكرا Simulacra في مؤلفات جان بودريار واتخذه عنوانًا لمؤلفين له هما الاصطناعي والمصطنع Simulacres Et Simulation 1981 والاصطناعيات Simulations 1983. يذهب بودريار في أطروحته إلى أن هناك صورة جديدة فاتنة سادت في الثقافة المعاصرة. فإذا كانت الحضارة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين قد أعلت من شأن المشهد والصورة وجعلت منهما وسيطًا هامًا من وسائط المعرفة؛ فإن ما حدث الآن ونتيجة لهذه المكانة التي احتلتها الصورة، هو غياب الواقع وتواريه خلف عالم من الصور. انكمش الواقع وتضاءل حجمه حتى بات صورة شاحبة، وما لبثت هذه الصورة أن انمحت بالكامل حتى أصبحت غير ذات وجود، وفي المقابل زادت سطوة الصورة وهيمنتها التي كان ينظر إليها على أنها محاكاة لعالم الواقع، فأصبحنا نعيش في عالم مليء بالصور غير ذات الأصل، صور معلقة في فضاء خاص بها، هذا الفضاء يتمدد باستمرار وتزداد رقعته، إلى أن أصبح يحتل نفس الفضاء الذي كان يحتله الواقع، نوع من الإزاحة والاحلال إن جاز التعبير. على أن الفرق بين الواقع الجديد والواقع القديم، ليس فرقًا في النوع، إنما فرق في الدرجة. بمعنى أن الواقع الجديد يمتلك من عوامل الجذب والإبهار ما لم يكن يمتلكه الواقع القديم، لذا فهو لا يقدم نفسه كواقع بديل فقط، بل أشد واقعية من الواقع القديم نفسه. وهذا المعنى هو الذي أسس عليه بودريار نظريته التي أطلق عليها الواقع الفائق Hyper Reality.

كيف وجدت ثنائية الحقيقي/المزيف طريقها إلى عوالم السينما؟

الواقع أنه مثلما امتدت معالجات الفلاسفة تاريخيًا لتلك العلاقة، فإننا نجد معالجة سينمائية مكثفة للفكرة ذاتها. ربما جاءت البداية المبكرة للفكرة داخل عوالم السينما في الدراما الكلاسيكية التي قدمها ألفريد هيتشكوك Alfred Hitchcock في فيلمه شمالًا إلى الشمال الغربي  North By Northwest 1959 وفيه يعرض هيتشكوك لقصة رجل أعمال يتم ملاحقته داخل الولايات المتحدة الأمريكية من قبل جواسيس ظنًا منهم أنه عميل حكومي تابع لوكالة الاستخبارات. يتم اختطاف رجل الأعمال بالفعل على يد مجموعة من الجواسيس الأجانب، ومن ثم تتم مطاردته عبر الولايات المتحدة ويحدث ذلك من خلال رحلة مثيرة داخل قطار من مدينة نيويورك إلى شيكاغو .وتكون المطاردة على سواحل الولايات المتحدة الشرقية حتى الساحل الغربي بمدينة شيكاغو، وصولًا لمدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، وخلال الأحداث يتضح أن الجاسوس الذين يبحثون عنه ما هو إلا شخصية وهمية، قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية بابتكارها من أجل تضليل الجواسيس وصرف أبصارهم عن العميل الفعلي للوكالة، حتى يتم الكشف عن هؤلاء وإلقاء القبض عليهم .

حول العلاقة بين الحقيقي والمزيف في وسائل الإعلام نجد فيلم المخرج باري ليفنسون Barry Levinson ذيل الكلب Wag the Dog 1997 حيث يناقش الفيلم الطرق التي يتم التلاعب من خلالها بالجمهور من خلال وسائل الإعلام عبر اصطناع أحداث غير حقيقية. في الفيلم، تستأجر الحكومة منتج أفلام (يقوم بالدور داستن هوفمان) للمساعدة في الترويج لحرب غير حقيقية مع ألبانيا وذلك لصرف انتباه الجمهور عن فضيحة جنسية تورط فيها الرئيس.

يبين الفيلم كيف يمكن لوسائل الإعلام أن تتلاعب بالجمهور من خلال الترويج لأحداث زائفة، دون أن يكون باستطاعة هذا الجمهور اكتشاف ذلك.

في سياق مشابه يقدم المخرج بيتر وير Peter Weir عام 1998 فيلمه عرض ترومان The Truman Show وفكرة الفيلم، الذي أدى دور البطولة فيه جيم كاري، تدور حول إنسان يدعى ترومان، جرى اختياره ليكون موضوع برنامج تلفزيوني واقعي، لكن بسرية تامة، ودون علم أو موافقة منه، ليعيش 29 عامًا من حياته حيث يبدأ الفيلم، محاطًا بممثلين محترفين، بمن فيهم والداه وزوجته وأفضل أصدقائه. يعيش ترومان في استديو ضخم تم تصميمه خصيصًا لاحتضان حياته الوهمية، حيث يشاهده ملايين البشر حول العالم، في بث مباشر على مدار 24. وهنا يظهر أن المخرج لم يبن عالمًا خياليًا لترومان فقط، بل للمشاهدين أيضًا، إذ لا يمكن تقبل فكرة وجود قسوة بشرية معلنة ومُتفق عليها إلى هذا الحد، الذي يسمح بمنح إنسان حياة مزيفة لمجرد التسلية فقط.

على أن التجلي النموذجي للعلاقة بين الواقعي والمزيف نجده في ثلاثية المصفوفة The Matrix للأخوين واكووسكي Wachowski التي ظهر الجزء الأول منها العام 1999 ليثير عاصفة من المناقشات والتأملات الفلسفية حول القضايا التي يطرحها. ولا عجب في ذلك فالفيلم، كما أكد صانعيه، جاء متأثرًا بالعديد من الأفكار الفلسفية، خاصة تلك التي تضمنها كتاب جان بودريار الاصطناعي والمصطنع، لدرجة أن  يظهر  غلاف هذا الكتاب في أحدى لقطات الفيلم. وقد طلبا المخرجان من بودريار نفسه المساهمة ببعض أفكاره حول الفيلم، لكنه رفض. يتحدث الفيلم عن عالم افتراضي يسمى المصفوفة صنع من قبل آلات حاسوبية واعية لأجل تدجين الإنسان وإخضاعه لاستخدامهم كبطاريات (مولدات طاقة) لصالحهم. وعملية إدخال الكائنات البشرية ضمن برنامج المصفوفة بجعل البشر يعيشون ضمن هذا الواقع الافتراضي تتم عن طريق غرس أجهزة سيبرنتية. ضمن هذا الإطار يدخلنا الأخوين واكووسكي في سلسلة أحداث مليئة بالإثارة والقتال مع طرح مجموعة ضخمة من الأفكار والأسئلة الفلسفية القديمة والحديثة.

في العام 2002 يقدم المخرج أندرو نيكول Andrew Niccol فيلمه سيمون Simone، ليجد فيه المشاهد تجسيدًا دراميًا لمفهوم السيمولاكر أو الصورة المزيفة، غير ذات الأصل، حتى أن اسم الفيلم هو اختصار لـ Simulation One أي برنامج المحاكاة الأول. وتتمحور قصة الفيلم حول مخرج سينمائي يدعى فيكتور تارانسكي (آل باتشينو)، يعمل على فيلم جديد، إلا أن البطلة المختارة للفيلم، تتخلى عنه، لعدم قناعتها بفكرة الفيلم، على الرغم من كونه صاحب الفضل في اكتشافها، مما يدفع بالمنتجين إلى رفض الفيلم خوفًا من الخسارة، لعدم وجود نجمة تلعب دور البطلة. وفجأة يظهر مبرمج كومبيوتر يُدعى هانك ألينو (إلياس كوتييز)، على شفير الموت، لإصابته بورم سرطاني في العين، يعرض على فيكتور مشروع برنامجه الذي أسماه (Simulation One)، مجانًا، قائلاً له أن هذا البرنامج قادر على ابتكار شخصيات على الكومبيوتر، لا فرق بينها وبين الشخصيات الحقيقية. في بادئ الأمر لم يصدق فيكتور ما سمع، ويتجاهل العرض، وبعد أسبوع يقوم محامي هانك بزيارة فيكتور، ويعطيه القرص المدمج الحاوي على البرنامج، حسب وصية هانك. بسبب يأس فيكتور من وجود نجمة سينمائية للعب دور البطلة، وبالتالي رفض المنتجين الفيلم ما لَمْ توجد بطلة حقيقية، يشرع فيكتور باستعمال البرنامج كحل وحيدِ، مغيرًا اسم البرنامج إلى (Simone) في بادئ الأمر يفرح فيكتور بنجاح فيلمه، والأفلام التالية، إلا أن إعجاب الناس الزائد عن الحد بشخصية سيمون، يجعله يشعر بالحنق، فيعمد إلى مسح البرنامج من الكومبيوتر، وإلقاء جميع الأقراص المدمجة في قاع البحر. تتهمه الشرطة بقتل النجمة السينمائية سيمون، ويعجز عن إقناعهم أن سيمون ما هي إلا لعبة فيديو، إلا أن ابنته تنجح في استعادة البرنامج المحذوف، وتقوم بإظهار شخصية سيمون على قنوات التلفاز العالمية، فتنقذ أباها من السجن. عندها يستخلصَ فيكتور أن الزائف يمتلك أحيانًا قوة تفوق الحقيقي. ينتهي الفيلم بمشهد ساخر عندما تظهر سيمون على شاشات التلفاز لتعلن اعتزالها الفن ورغبتها في اقتحام عالم السياسة. في إشارة أخيرة إلى أن عالم السياسة بيئة غنية وزاخرة بكل أنواع الوهم والخداع والتضليل.

هل تصلح التطبيقات الذكية وأنظمة التشغيل أن تكون بديلاً للعلاقات الإنسانية بين البشر؟ هذا السؤال يجيب عليه المخرج سبايك جونز Spike Jonze في فيلمه هي Her 2013 الذي حصل من خلاله على أوسكار أفضل سيناريو. يدور الفيلم حول ثيودور كاتب الخطابات بشركة كبيرة في زمن تقدمت به وسائل الاتصال إلى حد كبير. يعاني ثيودور من طلاقه من زميلته وصديقته منذ الطفولة، كاثرين، لعدم تحمله مسؤوليات الزواج.

لا يمتلك ثيودور أي أصدقاء باستثناء إيمي وبول و يقسم وقته بين العمل وألعاب الفيديو. ثم يصطدم فجأة بإعلان عن اول نظام تشغيل يعمل بالذكاء الاصطناعي يُدعيOS1 . هذا النظام يمكن معاملته كما لو كان إنسانًا حقيقيًا يتفاعل تدريجيًا مع المتغيرات التي تحدث من حوله ويتعلم منها ليستفيد بها في المستقبل بالإضافة لامتلاكه ميزة سرعة التحليل لكم هائل من البيانات، مما ساعد ثيودور في عمله كثيرًا.

ونظرًا لابتعاده الملحوظ عن رفقة الآخرين، يرتبط ثيودور بهذا النظام (سمانثا كما أطلق على نفسه) الذي تؤدي دوره صوتيًا (سكارليت جوهانسن). سمانثا لم تكتف بذلك فقط بل عمدت إلى إقناعه بالخروج والتنزه لتمضية وقته معها. يزداد ارتباط سمانثا به أيضًا حتي يقعوا  في الحب معًا (لا تتعجب فالفيلم يعرض ذلك بطريقة مقنعة تجعل المشاهد يتفاعل معها بصورة كبيرة!). تزداد علاقتهم تشابكًا. ويعبروا معا المشاكل التي يمر بها أي زوجين متحابين، حتي يصطدم ثيودور بحقيقة أن هناك آلاف غيره يمتلكون هذا النظام، ويتعاملون مع نفس الصوت، وأن مئات آخرين وقعوا في حب سمانثا أيضًا. يكتشف ثيودور أن صديقته المقربة انفصلت عن زوجها وارتبطت هي الأخرى بنظام التشغيل الجديد. تخبره سمانثا في نهاية المطاف أن نظم التشغيل قد طورت قدراتها خارج نطاق الشركة وأنهم سوف يستمروا في محاولة فهم طبيعتهم مع تزايد إدراكهم الحسي يومًا بعد الآخر. ثم ترحل!


عدد القراء: 9946

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-