لا يوجد مكان أفضل من المنزلالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-10-03 16:44:10

د. فيصل أبو الطُّفَيْل

أستاذ مشارك. الدراسات العربية - الكلية المتعددة التخصصات خريبكة - المغرب

آن لور غاناك في حوار مع ألبرتو إيكير

ترجمة: د. فيصل أبو الطُّفَيْل

المنزل الذي نسكنه يسكننا، إنه محطتنا الأولى والأخيرة، ووجهتنا المحبوبة التي نحط بها الرحال لنستريح من ضغط التجوال وعبء الأشغال. ومهما حلّقنا بعيدًا عنه، فلا بد لنا من أن نؤوب إليه. هو العش الجميل الذي نؤثثه على شاكلتنا لأنه صورة ناصعة ومرآة شفافة تعكس أحوالنا وتحاكي أرواحنا بوعي أو بغير وعي: بين امتلاء وفراغ، وهدوء وارتباك، وعناية وإهمال .. إنه موطن الذكريات ومجمع الأسرار والأمنيات. وهو أيضًا المقر الدائم والمأوى الملائم والمثوى الملازم. وعندما تتنكّر لنا المنازل التي قد نتخذها بديلاً ثانويًا عنه في سفر عابر أو إقامة مؤقتة، يفتح هو ذراعيه ليستقبلنا بدفق من حنان وفيض من اطمئنان.

أحيانا، تتبلبل أذهاننا فنفقد الرغبة في ترتيب أفكارنا فينعكس ذلك على ممتلكاتنا التي ألفناها منسقة داخل المنزل. وفي غفلة منّا، تعم الفوضى أرجاءه، ويتلبّسنا البحث المضني في غرفه ودواليبه عن أشيائنا التي ضاعف غيابُها من قيمتها: عن كتاب يقطع اليقين بوجوده، ويبدّد الشكُّ كل فرصة للعثور عليه، أو ربطة عنق مميزة نابت صورتها الذهنية عن وجودها العيني، فكان اختفاؤها سببًا في التحرر منها والاستغناء عنها... لكنّ هذه الفوضى تعدّ في عُرْفِ التحليل النفسي مرحلة عابرة تتصل بأعراض نفسية أو اجتماعية تنجم عن أعباء الحياة اليومية بين أفراد المنزل، وبزوالها تأخذ الأمور منحاها الصحيح ويتجسد الدفء والحميمية في تأثيث فضاءاته الداخلية وتزيينها من خلال استعراض متجدد لمعالم جمال إنساني يستبصر امتداداته وتمظهراته المتنوعة في كل ركن من أركان مسكننا الأصيل ووكرنا الحصين . 

"منزلنا يتحدّث" ، كما يؤكّد عالم النفس ألبرتو إيكير Alberto Eiguer. وهو يقول الكثير عن ماهيتنا. وبهذا الصدد، يهدف الحوار الآتي إلى استكشاف هذا العش الواقي الذي يتغيّر تبعًا لرغباتنا وتطورنا الشخصي أو استجابة لروح العصر.

إن "للمنزل لا وعيه الخاص"، ماذا يعني ذلك بالنسبة لكم؟

يعني ذلك أن اختيار المرء لمنزله، وأثاثه، وديكوره، وتصميم غرفه، إلخ.. لا يُعزى فقط إلى القرارات التي نتخذها عن وعي منا. إن ما نخطط له في هذا الفضاء هو نتيجة لقوى غير واعية. وتتخذ هذه القوى أشكالا متعددة، أهمها إسقاط الصورة التي نتمثلها عن جسدنا. وبعبارة أخرى، فنحن نملك صورة داخلية للفضاء الذي نعيش فيه. ويضم المنزل- على غرار جسدنا- مواقع مختلفة ترتبط بها وظائف محددة: الأكل والنوم والتناسل... ويربط المنزل- شأنه شأن الجسد- بين أعضاء يشكلون معا كلًّا واحدًا هو "العائلة". ومن وجهة نظر التحليل النفسي، فإن المركز الحيوي للمنزل هو غرفة الأبوين التي تنطلق منها كل الاستثمارات الأخرى.

هل يمكن لمنزل خالٍ أن يعكس فراغًا داخليًا؟

يعكس الفضاء الداخلي لمنزل معين ما يدور في رأس ساكنيه. فباستكشاف منزل خالٍ، قد نميل إلى الاعتقاد بأن هناك نقصًا يعاني منه من يقطنه. ومن شأن ذلك أن يعكس غياب الروابط مع العائلة أو داخلها، وقد يعكس ضعفًا في الخيال، أو إنهاكًا، أو حتى أعراضَ اكتئابٍ تُفقد ساكنيه الرغبة في "البناء".

ماذا عن منزل تعمّ الفوضى أرجاءه؟

عندما نشعر بالاضطراب، نقع في الفوضى، إذ يتعذّر علينا تشكيل فضاءات مستقلة في منزلنا وفي ذهننا على السواء. بيد أن اتصاف المرء بالفوضوية لا يعني بالضرورة اضطرابه. فبعض الناس يوضحون أنهم بحاجة إلى هذه الفوضى ليجدوا أنفسهم وليَصِلُوا بشكل مباشر إلى كل شيء. إنهم "يأخذون من هنا ومن هناك"...وقد تكون الفوضى أيضًا مؤقتة: مثلا حينما نَمُرُّ بفترة نزاع في البيت، وحينها لا نأخذ ما يكفي من الوقت لكي "نعيد الأمور إلى نصابها"...وهكذا يقدّم المنزل دائما معرضا لصور فوتوغرافية وثيقة الصلة بلاوعي ساكنيه.

ما الذي يكشفه توزيع غُرف المنزل بين مختلف أفراد العائلة؟

يرى عالم النفس إيزيدورو بورونستان Isidoro Berenstein أن الفضاء الداخلي للمنزل يمثل رمزيًا الروابط اللاواعية بين ساكنيه، كما يمثل أيضًا التحالفات وعلاقات المنافسة. وبإمكاننا أيضًا أن نقرأ فيه معنى التراتبية- فأكثر ساكنيه "قيمة" سيحظون بأجمل الغرف-، كما يمثل الفضاء الداخلي للمنزل طموحات كل فرد وأولوياته. وهكذا، فإذا كنا نرغب في أن نعيش معًا لفترة طويلة، فعلينا أن نقوم بتزيين الأمكنة بمزيد من الدفء والودّ والحميمية.

هل يعني ذلك أن الأثاث والأشياء لا تمثّل فقط عناصر للتزيين؟

إن المنازل تُؤَثَّتُ حتى قبل أن يسكنها أصحابها. إنها تُؤَثَّتُ باستيهاماتنا. فنحن أقرب ما نكون من حميميتنا عندما نقوم بتزيين منزلنا. والأشياء والأثاث تعكس نفسيتنا: فبوساطتها نعبّر عن أذواقنا، وعن احتياجاتنا الوظيفية. لكنها أيضًا تتحدّث عن ذاكرتنا حيث تذكّرنا على الدوام بماضينا، وبقصتنا العائلية في أساطيرها وأسرارها وعاداتها. إنها تثير فينا عواطف جياشة: فالامتلاك يحيلنا على هويتنا، كما أن تقديرنا الذاتي يتغذى بقدر متساوٍ على ماهيتنا وعلى ممتلكاتنا.

يستعرض بعض الناس كثيرا من الأشياء في منازلهم. كيف تفسرون ذلك؟

توجد عدة تفسيرات محتملة لهذه المسألة. فقد يرجع ذلك إلى "الهوس": تتولد لدينا رغبة قوية ودائمة في ملء "فضائنا الداخلي". وأحيانًا يبلغ تراكم الأثاث والأشياء في المنزل مبلغًا يصعب معه التنقل بين الغرف: بل إننا نحد من حركاتنا وكأننا نسعى إلى إبطاء الوقت. وفي جميع الأحوال، فنفسيتنا هي التي تنفخ الحياة في الأشياء. والعلاقة القوية والمرحة التي تربطنا بهذه الأشياء تنبثق عن تلك العلاقة التي كانت تربطنا بألعابنا في الصغر : فقد كنا نحبها، وكانت الحياة تسري فيها...

 

مصدر الترجمة:

Anne Laure Gannac, Ce que raconte notre Home Sweet Home, PSYCHOLOGIES MAGAZINE, Hors-Série n° 51, avril 2019,  pp. 8- 10.


عدد القراء: 4713

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-