دراسة بلاغية لبعض الشواهد الشعرية في كتاب الشعر لأبي علي الفارسي، على ضوء ما جاء في باب الفصلالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 14:36:58

سمية غازي الطيب

السعودية

1 - 0 مدخل

الحمد لله الرحيم الرحمن، الجواد المنان، ومن جوده وفضله ومنّه أن خلق الإنسان، فعلّمه البيان، أي بيان ما في نفسه من معاني لتصل إلى من يخاطبهم ويجالسهم، ويسامرهم، أو يكاتبهم ويراسلهم كلُّ ذلك إن فقد البيان فإنه سيفقد الاتصال وحسن التواصل مع الآخرين، لذلك جاء الحديث: "وإن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة"1.

في هذه الورقات اخترت الكتابة في موضوع الفصل الذي خصَّه الشيخ عبدالقاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز بالدرس والتنويه على أهميته، وصعوبته، وخفائه على كثير من الناس؛ من خلال النظر في الشواهد الشعرية النحوية المذكورة في كتاب الشعر أو شرح الأبيات المشكِلَة الإعراب لأبي علي الفارسي، لأستخلص والتقط بعض ما فيها من الدرس البلاغي، وتجلية قضية الفصل من تلك الشواهد والله خير معين.

مهدت لموضوعي بذكر معنى الفصل ومواضعه، فالفصل عند البلاغيين، هو: ترك عطف بعض الجمل على بعض مما شأنه العطف، "وقد سُئل الفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل، فالوصل عند البلاغيين هو عطف بعض الجمل على بعض، والفصل: هو ترك هذا العطف"2، والذي يهمنا هنا في هذه الدراسة هو: الفصل.

أما مواطنه فمنهم من جعلها: ثلاثة مواضع3، ومنهم أربعة مواضع4، ومنهم خمسة مواضع5.

ومن خلال القراءة في كتاب الشعر، وقفت على بعض ما له صلة بقضية الفصل فارتأيت أن أجعل دراستي هذه في ثمانية مسائل يسبقها مدخل، وتليها خاتمة، وهي على النحو الآتي:

المسألة الأولى/من شعر عبيد الأبرص القائل:

اذْهَبْ إليك فإني من بني أسد

                    أَهْلِ القِبَابِ وَأَهْلِ الخيلِ والنّادِي

المسألة الثانية/من شعر كناز بن نفيع القائل:

غِضِبْتَ علينا أن علاك ابن غالِبٍ

                  فهَّلاَ على جَدَّيك في ذاك تغضبُ

المسألة الثالثة/ من شعر الأحوص القائل:

فَطَلِّقْها فَلَسْتَ لهَا بِكُفؤٍ

               وإِلَّا يــــــعـــــلــــو مفـــــرَقــــكَ الــــحُسَــــامُ

المسألة الرابعة/من شعر سحيم القائل:

 عُمَيْرَةُ وَدِّع وإنْ تَجْهزْتَ غَازِياً

                  كَفَى الشيْبَ والإسْلَام للْمَرْءِ نَاهِياً

المسألة الخامسة/من شعر الأسعر الجعفي القائل:

مَسَحُوا لحِاَهُمْ ثُمَّ قَالُوا: سَالِمُوا

               يَا لَيْتِنِيْ فِي الْقَوْمِ إِذْ مَسَحُوا اللِّحَى

المسألة السادسة/من شعر العباس بن مرداس القائل:

 أبا خُراشةَ  أمَّا  أنتَ  ذا نَفَرٍ

                 فإِنَّ قَـوْمِيْ لَــــمْ تَأْكُـلـْهُــمُ الـضّبُـــع

المسألة السابعة/ من شعر النعمان بن المنذر القائل:

قَدْ قِيْلَ ذَلِكَ إِنْ حَقاً وَإِنْ كَذِبًا

                    فَـمَـا اعْتِذَارُكَ مِنْ شَيءٍ إِذَا قِيلا

المسألة الثامنة/من شعر النابغة القائل:

 وقفْتُ فِيْها أُصَيْلالاً أُسائلُها

                  أَعْيَتْ جواباً، ومَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ

1-1 موضع الفصل من شعر عبيد بن الأبرص6، القائل فيه:

اذْهَبْ إليك فإني من بني أسد

                   أَهْلِ القِبَابِ وَأَهْلِ الخيلِ والنّادِي7

هذا البيت ورد في قصيدة له مطلعها:

طاَلَ الخيالُ علَيْنا ليلَةَ الوَادِي

                     من أم عَمْرٍو ولمْ يُلمِمْ لِميعادِ8

يفخر الشاعر بقبيلته بني أسد ومالهم من مجد وعز، ويبين أسباب افتخاره بقومه وأنهم شجعان وفرسان أبطال، أصحاب سيوف بتّارة لا تنبوا بل تُصيب وتقطع، كما أنهم في كرّهم وفرّهم في ميادين القتال أهل تمرّس وفروسية، فالخيل عندهم من لوازم معاركهم مع أعدائهم فهم أهلها وأصحابها، كما أنهم يد واحدة على أعدائهم، فلهم أندية يجتمعون فيها لحل أمورهم، ووضع خططهم في مواجهة الأخطار، وكذلك يجلسون فيها لإبداء قوتهم الثقافية والفكرية والعسكرية، ومظاهر الكرم ونحو ذلك من المعاني التي يفتخر بها الناس، وهذا البيت فوقَ أنه شاهد نحْويٌّ مذكورٌ في باب تفسير الكلِم التي سُميّت بها الأفعال، قد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون، وهذا النوع هو: "كمال الاتصال"9، فقد تبين لي كمال الاتصال في هذا البيت من قوله في الشطر الثاني أهل القِباب، بعد أن قال اذهب إليك فإني من بني أسد، فإن الشطر الثاني من هذا البيت مبيّنًا ومؤكدًا للشطر الأول، وهو موضع من مواضع الفصل بين الجملتين التي قرّرها البلاغيون وملخصها: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للجملة الأولى، فهو عندما قال: اذهب إليك فإني من بني أسد بيّن في الشطر الثاني من يكون بنو أسد، فلو أنّ الشاعر أتى بالعطف هنا وجعل الكلام موصولاً ما أدّى نفس التأثير على المتلقي الذي أدّاه الفصل، فكأنه أراد أن يعمل قائمة بصفاتهم لا تتوقف عند هذا العدد وإنما ذكر منها هذه الثلاث المزايا ، أنهم أهل قبابٍ وأهل خيلٍ وأهل كرم.

وممّا يصُبُّ في نفس ما نحن بصدده من قضية الفصل، قول أبي العلاء المعرّي10:

الناسُ للنّاسِ مِنْ بَدوٍ وَحَاضِرَةٍ

               بعْضٌ لبعْضٍ وإن لم يشعُرُوا خدمُ11

يظهر بوضوح أن الشطر الثاني مبيّن ومؤكد لما ورد في الشطر الأول، فبعد أن قال الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ، بيّن كيف يكون الناس للناس بقوله في الشطر الثاني بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ، ولو أنه جعلها موضع وصل فقال مثلاً: الناس للناس من بدو وحاضرةٍ ثم عطف أو أضاف (وهم ) أو (الواو قبل بعض) لا نشعُرُ بالبلاغة التي أحدثها الفصل، مما يُفقد البيت جماله، فكمال الاتصال هنا أتى من وجود الارتباط بين الجملة الثانية والأولى، حيث أنها أوضحت لنا الخفاء المعنوي في الأولى على سبيل العطف البياني، ونتيجة لهذا الالتحام والارتباط في سياق الشطرين، استغنيَ عن الواو العاطفة بسبب كمال الاتصال بينهما.

2 - 1 موضع الفصل من شعر كناز بن نفيع12، القائل فيه:

غِضِبْتَ علينا أن علاك ابن غالِبٍ

                     فهَّلاَ على جَدَّيك في ذاك تغضبُ13

في هذا البيت يخاطب كنازُ بن نفيع جريرًا على إثر حوارٍ دار بينهم وهم جلوس، فيقول له: غضبت علينا لأن ابن غالب -ويقصد به الفرزدق- سعى في المكارم مسعاة جده، وأنت قعد بك جداك عن السعي للعُلا فهلاَّ تغضبُ عليهما لا علينا؟ وهذا البيت شاهدٌ نحْويٌّ مذكور في باب ما جاء في الشعر من الفصل بين المبتدأ وخبره وبين غيرهما بالأجنبي، وقد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون، وهذا النوع هو: كمال الانقطاع، وقد تبين في الشطر الأول مجيئه خبرًا، والشطر الثاني إنشاءً، وهنا انقطعت الصلة بينهما، ففي الشطر الأول يذكِّر كناز بن نفيع جريرًا بأمر غضبه فيقول: إن غضبك علينا لاختيارنا ابن غالب وتفضيلنا له لارتفاعه عليك في النسب، وفي الشطر الثاني يستخدم أسلوب الاستفهام وهو من أساليب الإنشاء فيقول: فهلاَّ وجّهت غضبك على جدَّيْك؟ فلو أن الشاعر جعل الكلام موصولاً فقال مثلاً في بداية الشطر الثاني: ومن المفترض أن تغضب على جدّيك، فلن نجد فيه الحسن البلاغي نفسه الذي أضافه الفصل. لذا وجّه البلاغيون عنايتهم لإدراك مثل هذه الأساليب البلاغية واعتنوا بها، ومما يبرز ويُجَلّي قضية الفصل، وهذا الضرب الذي رأيناه في بيت كناز بن نفيع، ما قاله أبو العتاهية14:

يا صاحب الدنيا المُحبِّ لها

                              أنت الذي لا ينقضي تعبه15

تجلّت قضية الفصل في صدر شطره الأول بأسلوب النداء الذي يندرج تحت الجمل الإنشائية، فإذا ما فرغ من هذا الشطر جاء الشطر الثاني جملة خبرية، وهذا ما يجعل الفصل البلاغي جليًا لاختلاف الشطرين إنشاءً وخبرًا، وهو ما يسميه البلاغيون كمال الانقطاع16، وذلك أنه لا توجد علاقة بين الجملتين في بيت أبي العتاهية، والقول بعدم وجود علاقة لأن الإنشاء لا يحتمل الصدق أو الكذب، والخبر يحتمل الصدق والكذب، وبما أنهما لا علاقة بينهما رابطة، فحينئذٍ لا فائدة من وجود الواو العاطفة بينهما ولا محل لها هنا بسبب كمال الانقطاع بينهما، ومثل هذا قول الحكيم:

"إِنَّما المرءُ بِأَصْغَرَيْهِ

                     كُلُّ امرئٍ راضٍ بِمَا لَدَيْهِ17"

بتأمل الشطرين يبدوا واضحًا أن الثاني معناه مختلف تمامًا عن معنى الأول، حيث كل شطر معنيٌّ بأمر يغاير الآخر، لذلك أشبه هذا البيت بيت أبي العتاهية، من حيث الفصل لكمال الانقطاع بينهما، وفارقه في أن بيت أبا العتاهية اشتمل على علاقة معنوية بين الشطرين، إلا أن الأول إنشاءً والثاني خبرًا، بينما هذا البيت لا توجد أي علاقة ولا رابطة، حيث أن الشطر الأول يوجه إلى أمر يغاير التوجيه الذي يتضمنه الشطر الثاني، لذلك مثل هذه القضايا المرتبطة بعلم المعاني خصّها البلاغيون بحديثهم سعيًا للكشف عن خبايا الكلام وأسراره، وهو ما يسمى في لغة بعض المعاصرين قراءة ما وراء النصوص.

3 - 1 موضع الفصل من شعر الأحوص18،القائل فيه:

فَطَلِّقْها فَلَسْتَ لهَا بِكُفؤٍ

                        وإِلَّا  يعلو  مفرَقكَ  الحُسَامُ19

هذا البيت ورد في قصيدة له مطلعها:

أَإِنْ نادى هديلاً ذاتَ فلجٍ  

                        معَ الإشراقِ، في فننٍ حمامُ20

يُخاطب الأحوص هنا سِلفه زوج أخت زوجته، وكان قد أُعْجبَ بِها لما تتمتع به من حسنٍ وجمال، فلّما حضرَ زوجها واسمه مطر وكان قبيحًا، استاء الأحوص كثيرًا فكتب هذه الأبيات، وهذا البيت شاهدٌ نحْويٌّ مذكور في باب من الحروف التي يُحذف بعدها الفعل وغيره، وقد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون، وهذا النوع هو: شبه كمال الاتصال21 وقد تبين شبه كمال الاتصال في الشطر الثاني فقد جاء جوابًا لسؤال فُهِمَ من الشطر الأول، تقديره: وإن لم أفعل؟ فالجواب في الشطر الثاني: سيعلو مفرَقك الحسام، فلو أن الشاعر جعل الكلام موصولاً فقال مثلاً في بداية الشطر الثاني: وإن لم تطلقها أو وإن لم تفعل ذلك فإن البيت لن يكون محط عناية بلاغية وهي قضية الفصل، التي لاحت من العلاقة التي بين الشطر الأول والثاني إذ أن جملة الشطر الأول مفصولة عن جملة الشطر الثاني، فالوقفة على نهاية الشطر الأول تضمنت شيئًا من أسرار البلاغة، ألا وهو استثارة الأذهان بتساؤلات منها رد على قول الشاعر في الشطر الأول: وإن لم أطلق؟ أو وإن لم أفعل؟ أو، ماذا أنت صانع؟، ونحو ذلك مما هو موطن لإدراك الخطاب البلاغي المشتمل على محسنات مثل هذا البيت، لذلك خلت الواو العاطفة بينهما بسبب هذا الانفصال، لكن الانفصال فيه ليس كاملاً، بل هنا نوع اتصال بينهما بسبب أن الثانية تُعدُّ بمنزلة إجابة عن سؤال مقدّر أثاره الشطر الأول.

وشواهد هذه القضية البلاغية، أعني شبه كمال الاتصال شواهد كثيرة، شعرًا ونثرًا، ومن ذلك قول الشاعر:

"زَعَم العواذِلُ أنّنِي فِي غَمْرَةٍ

                      صَدَقُوا وَلَكِنْ غَمْرَتِي لَا تنْجَلِي

يظهر مجيء الشطر الثاني، وهنا شبه كمال الاتصال، "لمَّا حكى عن العواذل أنهم قالوا: هو في غمرة، وكان ذلك مما يُحرّك السامع لأن يسأله فيقول: فما قولك في ذلك؟ وما جوابك عنه؟ أخْرجَ الكلام مُخْرَجهُ إذا كان ذلك قد قِيل له، وصار كأنه قال: (أقول: صدقوا، أنا كما قالوا، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي، ولو قال :(زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا)"22، فالجملة الثانية مفصولة عن الأولى، وهي جواب السؤال الناشئ عن الأولى، تقديره: هل هم صادقون في زعمهم؟ فأتى الجواب: صدقوا فبينهما رابطة معنوية، لأن الجواب مرتبط بالسؤال الناشئ، فأشبهت كمال الاتصال، ولذلك سمى البلاغيون هذا الضرب من الفصل شبه كمال الاتصال.

4 - 1 موضع الفصل من شعر سحيم23، القائل فيه:

عُمَيْرَةُ وَدِّع وإنْ تَجْهزْتَ غَازِياً  

                    كَفَى الشيْبَ والإسْلَام للْمَرْءِ نَاهِياً 24

جاء مطلع القصيدة بمخاطبة عميرة: اترك مواصلة الغواني إذا كنت قد عزمت على أن تقطع ما بينك وبين شواغل الدنيا، ثم يقول له: إن الإسلام والشيب كافية لردع من لا يرتدع، وهذا البيت شاهدٌ نحْويٌّ مذكور في باب من الفاعل، وقد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون، وهذا النوع هو: كمال الانقطاع. تبين كمال الانقطاع من الشطر الأول إذ جاء إنشاءً وأسلوبه النداء، فكأنه يقول يا عميرة ودّع، والشطر الثاني جاء خبرًا: أن الشيب والإسلام كفى بهما أن يردعا المرء، ولو أن الشاعر جعل البيت موصولاً، لم يكن البيت بالقوّة والجمال الذي أضافه له الفصل.

ومما يدركه الدارسون أن الجملة الإنشائية مغايرة للخبرية، من جهة أن الأولى طلب يُنتظر منه الصدق أو الكذب، بينما الثانية خبر يجري عليه الصدق والكذب، وشواهد هذا البيت إضافة إلى ما سبق ذكره، ما قاله أبو المهوش25:

لا تَحْسَبَ المَجْد تمراً أَنْتَ آكلُه

                  لنْ تبْلُغَ المَجْد حتَّى تلعق الصّبِرَا26

وبالنظرة البلاغية فيه برزت قضية الانفصال في ضرب من ضروبها، ألا وهو كمال الانقطاع لأن التباين بينهما واضح، حيث إن الشطر الأول اشتمل على طلب فهي إنشائية، أما الثانية فتضمنت الإخبار فهي خبرية، لذلك كانتا مفصولتين عن بعضهما لهذا السبب، فسماها البلاغيون كمال الانقطاع.

5 - 1 موضع الفصل من شعر الأسعر الجعفي27، القائل فيه:

مَسَحُوا لحِاَهُمْ ثُمَّ قَالُوا: سَالِمُوا

                  يَا لَيْتِنِيْ فِي الْقَوْمِ إِذْ مَسَحُوا اللِّحَى28

من قصيدة مطلعها:

أبُلِغْ أبَا حُمْرانَ أَنَّ عَشِيرَتي

                   ناجَـــوْا  ولِلنَّـفَرِ  المُناجينَ  الْتِـــــــوى29

يتحدث الشاعر عن طبع لدى العرب، عندما يريد أحدهم أن يخطب فإنه يمسح على لحيته، وهناك من يقول غير ذلك، وقد ورد في الخبر أنهم سألوا شخصًا يُقال له ثعلب عن هذا البيت فقيل له: ما ذا كان يصنع فيهم؟ قال يحلق لحاهم مجازاة لهم على الموادعة، والشاعر في هذا البيت يخبر والده ويبلغه أن قومه اقترفوا مخالفتين، الأولى: أنهم لم يأخذوا بثأره، الثانية: أنهم حثوا الآخرين وأمروهم بمسح اللحى، إشارةً منهم إلى الموافقة والصلح، والأسعر لم يقر بهذا، وهذا البيان للبيت لعله هو الأقرب والمناسب لسياق الأبيات، هذا البيت شاهدٌ نحْويٌّ مذكور في باب من الابتداء لا يكون خبره ظرف الزمان، وقد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون وهو: كمال الانقطاع، ففي الشطر الأول جاء خبرًا، والشطر الثاني إنشاءً، فانقطعت الصلة بين الشطر الأول والثاني، ففي الشطر الأول يُخبر خبرًا وهو مسح القوم لحاهم، ثم مسالمتهم، وفي الشطر الثاني يستخدم أسلوب التمني وهو من أساليب الإنشاء "يا ليتني في القوم"، وهذا من كمال الانقطاع، فالمطلع خبر والشطر الثاني في مطلعه إنشاء، فوقع الفصل هنا لاختلاف الجملتين واستُغنيَ عن الواو لهذا السبب، ولو أن الشاعر أتى بواو بينهما لكان في الكلام عيبًا، حيث أنه سيؤدي إلى إيهامنا وإرباكنا في استقرار المعنى الذي يقصده الشاعر، لأن الواو بينهما تؤدي للوهلة الأولى إلى معنى أنهم قالوا :سالموا ويا ليتني، فيكون من مقول قومه لا مقوله هو، ولما لم توجد الواو استقام الكلام دون حدوث أي قلق فيه من حيث المعنى، ففصل قوله: يا ليتني عن قولهم: سالموا ، ومن هنا كان للفصل البلاغي في مثل هذا الموضع قيمته وأهميته وجماله وبلاغته.

6 - 1 موضع الفصل من شعر العباس بن مرداس30، القائل فيه:

أبا خُراشةَ  أمَّا  أنتَ  ذا نَفَرٍ

                          فإِنَّ قَوْمِيْ لَمْ تَأْكُلْهُمُ الضّبُعُ31

يُخاطب العباس خفاف بن ندبة ، وكنيته أبو خراشة، كانت بينهما مهاجاة ، فيقول له: إن كان عدد قومك كثيرًا، فليس عدد قومي قليل، لم تأكلهم الضبع المراد: السنة المُجدبة، وهنا كناية عن قوتهم، لأن الناس إذا أجدبوا وقل طعامهم ضعفوا عن الدفاع عن أنفسهم وسقطت قواهم، فتنتشر بينهم الضباع آمنة لا يستطيعون ردها، فتأكلهم، فهو يقول: لم تأكلهم الضبع دلالة على قوتهم وشدّة بأسهم، وهذا البيت شاهدٌ نحْويٌّ مذكور في باب من الحروف التي يحذف بعدها الفعل وغيره، وقد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون، وهذا النوع هو: شبه كمال الاتصال، واتضح شبه كمال الاتصال من الشطر الثاني حيث جاء جوابًا لاستفهام لم يُذكر في الشطر الأول، وإنما يتبادر لذهن السامع كأنه قيل: فماذا عنك ؟ فجوابه فإن قومي أقوياء وليسوا بأقل من قومك.

7 - 1 موضع الفصل من شعر النعمان ابن المنذر32 القائل فيه:

قَدْ قِيْلَ ذَلِكَ إِنْ حَقاً وَإِنْ كَذِبًا

                        فَمَا اعْتِذَارُكَ مِنْ شَيءٍ إِذَا قِيلا33

ورد أن لُبيد هجى الربيع في مجلس النعمان فخرج لبيد من المجلس، فأرسل إليه النعمان يسترضيه، وقال من جملة ما قال، هذه الأبيات، وهذا البيت شاهدٌ نحْويٌّ مذكور في باب من الحروف التي يحذف بعدها الفعل وغيره، وقد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون، وهذا النوع هو: كمال الانقطاع، فالشطر الأول جاء خبرًا قد ذكر ما ذكر وقيل ما قيل، أكان صدقًا أو كذبًا، والشطر الثاني جاء إنشاءً فما اعتذارك على ما قد قيل؟ قد قيل وانتهى، وهنا كمال الانقطاع في أن الشطر الأول جاء خبرًا والشطر الثاني جاء إنشاءً.

ومما ورد من الأمثلة، قول الشاعر:

"وَقَال رَائِدُهُم أَرْسُوا نُزَاوِلُهَا

                    فَحَتْفُ كُلِّ امْرِئٍ يَجْرِي بِمِقْدَارِ"34

يتضح كمال الانقطاع من الشطر الأول حيث جاء إنشاءً وهو الأمر، فيأمر أن يوقفوا السفينة حتى يباشروا الحرب، والشطر الثاني جاء خبرًا، ومعناه كل امرئ مكتوب أجله في كتابه وسيجري عليه، فلا خوف من الموت، وانقطاع الصلة بين الخبر والإنشاء جعله من كمال الانقطاع.

8 - 1 موضع الفصل من شعر النابغة، القائل فيه:

وقفْتُ فِيْها أُصَيْلالاً أُسائلُها

                   أَعْيَتْ جواباً، ومَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ35

كتب النابغة قصيدة لابن النعمان بعد أن عاد من الشام فبدأها بالوقوف على الأطلال كعادة العرب، وهذا البيت شاهدٌ نحْويٌّ مذكور في باب من زيادة الحروف، وقد اشتمل على نوع من أنواع الفصل التي تحدث عنها البلاغيون، وهو: شبه كمال الاتصال، فالشطر الثاني جاء جوابًا لسؤالٍ فُهِم من الشطر الأول فكأنه قيل له: هل أجابتك؟ فيرد في الشطر الثاني: أعيت جوابًا، أي لم يرد عليَّ أحدٌ، إذ أنه لم يكن بالربع من أحد، وهذا هو شبه كمال الاتصال، فجمال الفصل هنا كان للدلالة بالشعور بالوحدة والألم، فلم يعطفها بالوصل حتى يصل للسامع مقدار الألم الذي ألمَّ بالشاعر.

2 - 0 الخاتمة

في ختام هذا البحث الذي يُعنى بالدرس البلاغي المتمثل من قراءتي للشواهد الشعرية، الخاصة بقضية الفصل في البلاغة العربية في كتاب الشعر لأبي علي الفارسي، فبعد النظر فيها بروية استخلصت بعض مواضع الفصل الذي اعتنى به البلاغيون وعلى رأسهم شيخهم عبدالقاهر الجرجاني، وقد اشتملت على عدد من ضروب الفصل البلاغي حسْب ما قادني إليه علمي واجتهادي:

أولاً: كمال الاتصال.

ثانيًا: كمال الانقطاع.

ثالثًا: شبه كمال الاتصال.

وأوصي في خاتمة هذا البحث إلى العناية بمثل هذه القضايا لما يترتب عليها من الوقوف على أسرار البلاغة، والعناية بالدرس البلاغي والقضايا البلاغية بما يتعلق بالمجاز والحذف والتقديم والتأخير عمومًا، وقضية الفصل خصوصًا لما فيها من الخفاء والغموض والصعوبة.

 

الهوامش:

1 - أخرجه البخاري في صحيحه، وفتح الباري في كتاب الطب، باب إن من البيان لسحرًا، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، واختصر البخاري على (إن من البيان لسحراً) (10/237، ح:5767)، وذكرهما أبو داود في سننه في كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشدق في الكلام، وباب ما جاء في الشعر (4/301-303، ح:5007،5010،5011).

2 - طبانة، بدوي، معجم البلاغة العربية، جدة،1408هـ- 1988م، ص:501-502.

3 - أمين، بكري شيخ، البلاغة العربية في ثوبها الجديد، علم المعاني، بيروت، 1992م، ص:185-186.

4 - الصعيدي، عبدالمتعال، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، (2/68-80).

5 - المراغي، أحمد مصطفى، علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع، بيروت، 1414هـ، ص:167 إلى172.

6 -  الهاشمي، أحمد، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، بيروت، ص:207 إلى 210.

7 - عبيد بن الأبرص بن عرف بن جشم، من مضر أبو زياد، شاعر من دهاة الجاهلية وحكمائها، وهو أحد أصحاب المجمهرات المعدودة، وله ديوان شعر. (الزركلي، خير الدين، الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، (4/339-340).

8 - الفارسي، أبو علي- تحقيق: هندي، حسن، شرح الأبيات المشكلة الإعراب المسمى "إيضاح الشعر"، دمشق- بيروت،1407هـ، ص:6.

9 - ديوان عبيد بن الأبرص، ص:28، (نسخة إلكترونية، الموسوعة الشعرية).

10 - من مواضع الفصل، ويكون بين الجملتين بثلاث صور. (طبانة، بدوي، معجم البلاغة العربية، ص:590).

11 - أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي المعري، شاعر فيلسوف، وله مصنفات كثيرة. (الأعلام، الزركلي، 1/150).

12 - البلاغة العربية في ثوبها الجديد، بكري شيخ أمين، ص:185.

13 - كناز بن نفيع الربعي من مالك بن زيد مناة بني تميم، وهو ربيعة الجوع. (معجم الشعراء، محمد بن عمران المرزباني، ص:169، نسخة إلكترونية من موقع الموسوعة الشعرية).

14 - شرح الأبيات المشكلة الإعراب، أبو علي الفارسي، ص:300.

15 - من مواضع الفصل، ويكون بين الجملتين بإحدى صورتين. (طبانة، معجم البلاغة العربية، ص:589).

16 - سحيم، شاعر رقيق الشعر، كان عبدًا نوبيًا، اشتراه بنو الحسحاس، له ديوان شعر. (الزركلي، الأعلام، 3/124).

17 - الفارسي، شرح الأبيات المشكلة الإعراب، ص:477.

18 - حوط بن رئاب الأسدي، المشتهر بأبي المهوش، شاعر مخضرم، شعره قليل متفرق. (الزركلي، الأعلام، 2/289).

19 - البغدادي، إسماعيل القالي، تحقيق: دار الكتب العلمية، الأمالي في لغة العرب، بيروت 1398هـ- 1978م، (1/113).

20 - مرثد بن أبى حمران الحارث بن معاوية الجعفي: شاعر جاهلي، لقبه الأسعر. (الزركلي، الأعلام،7/201).

21 - الفارسي، شرح الأبيات المشكلة الإعراب، ص:280.

22 - ديوان الأسعر الجعفي (نسخة إلكترونية، الموسوعة الشعرية).

23 - العباس بن مرداس ابن أبي عامر السلمي، من مضر أبو الهيثم، شاعر فارس من سادات قومه، أمه الخنساء الشاعرة، وله ديوان. (موقع إلكتروني، الموسوعة الشعرية).

24 - الفارسي، شرح الأبيات المشكلة الإعراب، ص:71.

25 - النعمان بن المنذر بن المنذر ابن امرئ القيس بن عمرو بن عدى اللخمى، كنيته: أبو قابوس، وهو ملك العرب. (الجواهري، الصحاح في اللغة،3/98).

26 - الفارسي، شرح الأبيات المشكلة الإعراب، ص:71.

27 - زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز. (تراجم شعراء الموسوعة الشعرية، الجزء: الأول، ص:853)*نسخة المكتبة الشاملة*.

28 - الفارسي، شرح الأبيات المشكلة الإعراب، ص:90.

29 - الهاشمي، أحمد، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، ص:208.

3 - 0 المصادر والمراجع

1 -الأبرص، عبيد، ديوان عبيد بن الأبرص، (نسخة إلكترونية، الموسوعة الشعرية).

2 - الأزدي، الحافظ سليمان، سنن أبي داوود، راجعه على عدّة نسخ: محمد محي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان.

3 - أمين، بكري شيخ، البلاغة العربية في ثوبها الجديد، علم المعاني، دار الملايين، بيروت، ط3، 1992م.

4 - الأنصاري، ديوان الأحوص الأنصاري، (نسخة إلكترونية، الموسوعة الشعرية).

5 - بو دوخة، مسعود، مدخل إلى البلاغة العربية وعلومها، مركز الكاتب الأكاديمي.

6 - البغدادي، إسماعيل القالي، الأمالي في لغة العرب، تحقيق: دار الكتب العلمية، بيروت1398هـ - 1978م.

7 -  تراجم شعراء الموسوعة الشعرية*نسخة المكتبة الشاملة*.

8 - الجرجاني، عبدالقاهر، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط5،1424هـ-2004م.

9 -  الزركلي، خير الدين، الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين.

10 - الصعيدي، عبدالمتعال، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز، ط8.

11 - طبانة، بدوي، معجم البلاغة العربية، دار المنار، جدة، ط3،1408هـ- 1988م.

12 - العسقلاني، أحمد، فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري، رقم كتبه وأبوابه: محمد فؤاد عبدالباقي، أشرف على مقابلة النسخة المطبوعة والمخطوطة: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، دار الفكر للطباعة والنشر.

13 - الفارابي، إسماعيل الجوهري، صحاح تاج اللغة وصحاح العربية في اللغة، تحقيق: أحمد عبدالغفور عطارة، دار العلم للملايين، بيروت، ط4،1407هـ - 1987م.

14 - الفارسي، أبو علي، شرح الأبيات المشكلة الإعراب المسمى "إيضاح الشعر"، تحقيق: حسن هنداوي، دار القلم، دمشق، دار العلم، بيروت. ط1، 1407هـ.

15 - القزويني، الخطيب، الإيضاح في علوم البلاغة المعاني والبيان والبديع، وضع حواشيه إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت ط1، 2004م- 1424هـ.

16 - المراغي، أحمد مصطفى، علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 1414هـ.

17 - الهاشمي، أحمد، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، دار إحياء التراث العربي، بيروت ط12.

18 - الموقع الإلكتروني، الموسوعة الشعرية،

https://poetry.dctabudhabi.ae/#/.


عدد القراء: 2187

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-