رواية (عرس الشاعر): سحرية النص وواقعيتهالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2024-05-30 18:38:54

غازي سلمان

العراق – بغداد

الكتاب: عرس الشاعر

المؤلف: أنطونيو سكارميتا

المترجم: صالح علماني

الناشر: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 308 صفحة

(ما هو تاريخ أمريكا اللاتينية إذا لم يكن مجموعة من أحداث الواقع الخرافي) الروائي الكوبي إليخو كاربنتير.

يعتبر أنطونيو سكارميتا المولود في انتوفاجستا في تشيلي عام 1940، إلى جانب إدواردو غالينو وإيزابيل الليندي، الجيل الأول من الكتّاب بعد رواد الواقعية السحرية، غارسيا ماركيز وفارغاس يوسا وكارلوس فوينتس وقبلهم بورخيس، هذا الجيل الذي تمكن من أن يجد له مكانًا وسط أولئك الآباء المؤسسين. وهو ما عناهُ انطونيو سكارميتا بقوله (كانت الواقعية السحرية حفلة رقصنا فيها جميعًا).

أصدر سكارميتا مجموعات قصصية "الحماس" 1967 و"عارية على السطح" 1969 وبعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس اليساري المنتخب سلفادور الليندي سنة 1973.غادر سكارميتا البلاد إلى الأرجنتين، ملاذًا له من بطش حكومة الجنرال بينوشيه الفاشية، ليستقر بعدها في برلين الغربية للسنوات 1975- 1989.

كتب العديد من السيناريوهات لأفلام أوروبية ناجحة. وعديد من الروايات: (حلمت أن الثلج يحترق 1975 و"لم يحدث أي شيء" عام 1980 و"التمرد عام 1980 و"الصبر يحترق 1985 أو "ساعي بريد نيرودا" التي حولها إلى فيلم سينمائي. ومثلها "أب سينمائي"، وفي عام 1989 عاد إلى بلاده فصدرت له مجموعة "واحد تلو الآخر 1995، ورواية عرس الشاعر 1999، ورواية فتاة الترومبو 2001 وغيرها. ترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة حول العالم.

وتكشف لنا "الخاتمة" ما بعد الفصل الأربعين لرواية "عرس الشاعر" أن الرواية ماهي إلا سيرة جدّ الكاتب انطونيو سكارميتا ممثلاً بـ"استيبان كوبيتا" الذي هاجر موطنه في "جيما" إحدى قرى جزيرة ماليسيا، الواقعة بين إيطاليا واليونان، مع مجموعة الشباب. الذين نفذوا عملية قتل الجنود النمساويين الغزاة، واستقروا في تشيلي.

تتمحور أحداث الرواية حول (حكايات) ثلاث هي: حادثتي زفاف تفصل أوّلاهما عن الأخرى عشرون عامًا، والثالثة هي عملية (قتل الجنود النمساويين دفاعًا عن الوطن) عشية ليلة العرس الأخيرة. إلاّ أن كل تلك الحكايات ستُنهي مصائر أبطالها بشكل مأساوي: الغياب الغامض لـ"ستاموس" وهوالمالك الأول للمتجر، ووفاة عروسته "مارتا ماتاراسو" في ليلة عرسها، وانتحار العريس (جيرينيمو) المالك الثاني للمتجر وهو ابن لمصرفي ثري نمساوي مهاجر ومقيم في الجزيرة، واغتصاب عروسه "اليا ايمار" من قبل الجنود الغزاة، الذين وصلوا إلى شاطئ الجزيرة في ليلة الزفاف، ما حدا بثلة الشباب الذين نفذوا عملية القتل الهروب إلى تشيلي، على متن سفينة صادروها عنوة كانت معدة لرحلة العروسين. خلاصًا من بطش الجيش النمساوي، حتى ليخيّل أن تلك الجزيرة التي كانت تضج بصخب الحياة، باتت صموتة مهجورة، إلا من بقايا الحكايات التي تماثلت مع ثوبي العروستين الممزقين والمضرجين بالدماء.

جيرنيمو: (أليس هناك من يقرع الناقوس؟)

الجنرال النمساوي: لا توهم نفسك، فالجميع غادروا القرية، بمن في ذلك الخوري) ص249

ولتشكيل ثيمة نصه السردي، آثر انطونيو سكارميتا ما ترشح من تلك الحكايات التي كانت قد ركدت على شكل صور ولغة تحت ركام النسيان وإهمال الذاكرة، والتي هي ليست عالمًا تجريديًا بحتًا، بل تنطوي على ذلك المحتوى الحي الثري قدرَ تعالقها بالأمكنة والشخصيات، وبتفاصيل الحياة اليومية بما فيها اللحظات التافهة والمبتذلة منها بالإضافة إلى وقائع تاريخية شاء الروائي زمنها قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى، وقد صار بإمكان الكاتب إحيائها، عبر فاعلية اللغة، التي سوف لن تبقيها مستترة خلف حجابات الزمن، فـ(التاريخ غير المكتوب لا وجود له، إنه حصيلة ذكريات خاصة) ص146، وقد منحتها مخيلة الكاتب وأسلوبه السردي، بعباراته المكثفة، وما ضمنّه من القصائد والأغاني التي تصاحب الرقصات الشعبية بحركاتها الإيروتيكية، والحوارات القصيرة، التي تتقاطع معه، خاصيةَ التحليق إلى ارتفاعات متباينة في فضاء النص، ثم ما تلبث أن تعود إلى واقعها وقد تعالقت حسيًّا معه عبر نطاقها الجمالي المغاير، ليغذّ الكاتبُ السفرَ بعالمه السردي المتحقق، المفارق، الخيالي، موازيًا للواقعي، ومنفتحًا على تقنيات الواقعية السحرية، وإذ تمكن الكاتب من ذلك، فإنه يكون قد مهد للمتلقي إدراك إمكانية تحقيق تلك الوقائع والإحساس بجمال الحياة في المتن السردي ذاته الذي ارتكز على الزمن (الشاسع) لجزيرة "جيما" كما دعاه الراوي في أول سطور الروي. وقد اختزل الكاتب ذلك الزمن بيوم واحد، وكأنما ضغطه داخل عبوة صغيرة تفجرت سردًا عن حيوات تضج بالحب والكراهية، وآلام الخسارات المأساوية، والحرب والموت، وبالشعر والموسيقى. وبالفكاهة والسخرية. فيما عمد الكاتب لأن يكون عدد صفحات كل فصل من الرواية لا يتجاوز الثمانية تقريبًا، لكي لا يستغرق المتلقيَ السردُ المتواصلُ الطويل، الأمر الذي جعل ذلك الزمن على شساعته، يفارق تراتبيته الكرونولوجية، محفزًا ذهن المتلقي وفضوله لاستباق الأحداث بتكهن وقائعها، وهو يلاحق التتمات المستجدة خلال الفصول بأكملها، حتى بدت تلك الحكايات قصصًا قصيرة تتنامى أحداثها بنهايات مفتوحة على أكثر من احتمال، خلل فصول الرواية وهي تستبق في فضاءها الذي ما انفك يتسع ما بقي الروي مستمرًا.

ويتمسك الكاتب باشتراطات الواقعية السحرية في تخليق شخصيات روايته، القائمة على مبدأ الانزياح عن مرجعياتها الواقعية، لتواصل التعالي حتى ركونها إلى فضاءات الغرائبي والمثير في عجائبيتها وتعقيداتها وتناقضاتها. وكمَن أدامَ معها علاقة تعايش طويلة الأمد، يكون قد استغرق مليًا أفكارَها وتفاصيلَ عاداتها، حتى تغدو تجربته معها جزءًا من خبرته الشخصية في الحياة، فيستدعيها كعناصر سردية أغنتها ملكته التخييلية وخزينه المعرفي، حيث ستترسم مكتملة خلال سفر السرد بما تنجزه من أحداث وفاعليتها بها، فـالشخصية كما يقول فيليب هامون (بناء يقوم النص بتشييده أكثر مما هي معيار مفروض خارج النص).

وقد حلّق الكاتب بمخيلته حرًا طليقًا، غير آبه بحدود أو عوائق، فالواقعية السحرية تقتضي خيالاً خلاقًا، ابتغاء تغيير رؤية المتلقي التقليدية إلى مجمل محيطه الواقعي، الأمر الذي يحدث اضطرابًا في نسيج الموجودات والظواهر الواقعية المنتقاة، وهو ينقب فيها مندفعًا إلى أعماقها الحميمية والاشد سرية وإلى أبعد من مجرد التوظيف الأدائي لها، ليعثر على ضالته في مكامنها على أشكال لا تمت لها بصلة بل هي أقرب ما تكون إلى الأحلام، حتى أخرجها عن نطاقها الواقعي الملموس، متجاوزًا بها حدود المنطق، متقاطعة مع الأعراف وقوانين الطبيعة، فناقوس كنيسة قرية "جيما" الذي يبدو لناظره أكبر حجمًا من الكنيسة نفسها ولا يمكن تفسير ذلك إلا بمعجزة: (ظل متهدلاً حتى الأرض المرصوفة.. والذي يزن خمسمئة طن معلقًا بخفة فراشة، في برجه الصغير..) و(إذا كان لا يستند إلى قوانين الفيزياء، فلا بد أنه يستند إلى قوانين أخرى) ص113 و172

وبذلك، ستتخلق في المتن السردي وشيجة حميمة بين الواقع والخيال، بين الواقعي والسحري، بين التراجيديا والفكاهة والسخرية، وكذلك تعايشًا لازدواجية الشخصيات بتناقض مواقفها، مثل خوري الكنيسة الذي اقترح على التاجر جيرينيمو تزلفًا له، أن يفتتح ماخورًا، ونيرو كوبيتا قائد عملية قتل الجنود النمساويين، يتخلف عن ساعة الصفر، لاستغراقه في مشاهدة فيلم سينمائي، وقد عطلته رقة خبيئة في أعماقه، لكنه قتل بعدها بصلافة الجندي النمساوي الأخير، وهو أسيره. فيما أخوه الأصغر استيبان رافق الشبان القتلة متوافقًا معهم في استيلائهم على سفينة عرس جيرينيمو بالرغم من تقاطع رؤيته معهم. إذ ذاك يصبح عدم تصديق ذلك كحقائق أمرًا صعبًا بالنسبة للمتلقي، كلما وضعه الكاتب بمواجهه أحداث وموجودات تتحدى المنطق عبر الجمع بين الأضداد والمفارقات، فيطالعه واقعًا سحريًا ينم عن رؤية مفادها أن العالم الذي خَبَره مألوفًا، يزخر هو الآخر بقدر لا بأس به من الغرابة. فيما بدا الكاتب وهو يمارس حريته المطلقة في سرده، غير آبهٍ بقناعات المتلقي بواقعيتها أو عدمها.

حرص الكاتب على وفرة الحوار بين الشخصيات، حدّ هيمنته على  مساحة الروي، باعتباره اجراء أسلوبي له وظيفته البنيوية في مسرحة المشهد الحواري، ويمكننا الإشارة هنا إلى الفصل 24 من الرواية مثالاً على ذلك، الذي انفرد باستعراض اللقاء الأول بين آليا إيمار وباولا فرانك، حيث لم يتوقف الكاتب هنا وهو يصيغ الجمل الحوارية، وهي قصيرة عمومًا، عند دلالاتها اللغوية فحسب، بل تجاوزها إلى وصف الأداء الصوتي وكاريزما الشخصيتين المتحاورتين وعلاقاتهما ببعضها مفصحًا عن ثقافتهما، وبما يوحي استقلاليتهما عنه كخالق لهما، وكأنه هنا أخذ دور السيناريست في إعانة الراوي على توصيف وترسيم المشهد الحواري بكل تفاصيله الدقيقة، بما في ذلك وصف حركة الشخصية التعبيرية وانتقاء العبارات المتناسبة مع طبائعها، والزمان والمكان بإكسسواراته، وبذا يكون قد أسهم فعلًا في تطور الأحداث وهيكلة الحبكة وتتابع أحداثها. كما يكشف ذلك الحوار بين "باولا" شقيقة العريس جيرونيمو و"آليا " في محاولة لثنيها عن الزواج منه، عمقًا شفيفًا لنقاء روح "آليا" وثقافتها حين تقارن الحب بالموسيقى مثلما تفصح "باولا" عن شخصيتها البيروقراطية المتغطرسة:

تحاورها "آليا":

-: الحبُّ! هذا يعني، كيف لإحدانا أن تعرف متى تحبّ شخصًا حقًا؟.. فكّري في الموسيقا، إنك تستمعين في البدء إلى موزارت ثم موزارت، وعندئذ تشعرين بالسعادة، هذا يعني إنك ممتلئةٌ بموزارت... وفي أحد الأيام تتعرفين إلى الخامسة لبيتهوفن، وإذا بذاك الذي كان حبًّا لموزارت...

تردّ باولا:-

-: يتحول إلى حب الخامسة لبيتهوفن.

-: لا يا مدام، إنك تسمعين بعد ذلك رباعيات بيتهوفن، فيتغلغل حُبُّ بتهوفن في إحدانا، هذا يعني إحدانا تخرج من نفسها.. إنه الحب أليس كذلك..؟ ص158.

وقد انصب اهتمام الكاتب على شخصية "آليا ايمار"  لتكون الشخصية الرئيسية للرواية، إلى جانب "استيبان كوبيتا" حيث هيأ لها منذ نشأتها ظواهر فيزيائية واجتماعية، مع بنية نفسية متفردة، تمهيدًا لترسيم شخصيتها بملامح الواقعية السحرية، فمن خلال سرديةٍ ترجمت منولوجها الداخلي، تفتحت عن صور مشهدية مختلفة متلاحقة، توحي بموكب بارانومي ضاجًا بالغناء، وبلوحات تشكيلية قابلة للتأويل، وبتحبيك سردي اتصف بمرونته وصفاءه، من خلال ذلك، تجلى وميض أنار للمتلقي عمق هذه الشخصية المتأملة ومنحها إشراقة سحرية لرؤيتها المنطوية على دلالات ومعاني جمة:

(إنها تعرف كلّ بيت، والكثير من أثاث الصالونات، والشهور المشطوبة في التقاويم، وأسرّة الحديد البيضاء في المستشفى، والشقوق التي في قاعة المدرسة، وحمّامات أشقاء صديقاتها الصغار، وعشّ غربان البحر، والميزان الألمانيّ حيث يزنون في هذه اللحظات بالذات الخبز لكي يوزعوه من بيت إلى بيت على دراجة ذات ثلاث عجلات، وهي تعرف كلّ قائمة الأغاني التي يترنّم بتصفيرها شبّان الساحة، والتوريات التي يوجّهها إليها بالإجماع المعجبون بردفها وكاحليها، والرجال الذين يتحرّقون عارضين عليها لحس صواني أذنيها، بل وكعبيها كذلك، بلعاب مفرقع ومنوي. أتكون هذه الحفنة من الصغائر هي الوطن؟) ص 88.

وتسأل آليا عشيقها "استيبان كوبيتا":

(- ذكّرني بحدثٍ واحد على الأقل...

- حدثت عند مناولتك الأولى، اجتزتِ يومذاك القرية رفقة والديكِ، وخلفتِ أثرًا من الثلج في كل خُطوة.

- ثلجٌ في جيما؟

- ويوم أصابتك الحمى في المستشفى وبينما كانوا يضعون كمادات جليدية على جبهتك: كنتِ تنظرين من دون أن ترمشي إلى الجدار، ورويتِ ماكنتِ ترينه بلغةٍ لم يفهمها أحد؟) ص88-89

وإن استقطبت شخصية "آليا" شخصيات الرواية كلها بلا استثناء، إلا أن شخصية "استيبان كوبيتا" هي فقط من تمكنت النفاذ إلى عمق بحيرة روحها الساكنة، تحرك فيها موجياتها لتحدث فيها ما يشبه الهدير، فلا حفلة الزفاف الكبرى ولا عريسها جرينيمو استطاعا أن يفعلا أكثر مما فعله انسلال الفتى استيبان عشية الزفاف، إلى حجرة تزيينها، كأي دخيل:

(تقرر العروس التقدم لكي توجه لكمة إلى أنفه، لكن شيئًا مفرط البهجة في شلال كوبالت أعماق عينيّ الدخيل يكبحها، وتفلت منها ابتسامة زلقةٌ من شفتيها المكتنزتين... وكيف أن الدبابيس المتعبة التي تشدُّ الثوب على الجذع راحت تطفر من القماش ضحية الاضطراب المفاجئ في نَهدي آليا آليمار.. وأغمي عليها) ص27-28

ذلك إن لـ(استيبان عينين زرقاوين شديدتي العمق والاتساع، حتى لتبدو أن مُصلّبتين بالكوبالت، وتخلان بتوازن أي شخص يعترض طريقه، وأنه يعي مغناطيسية نظرته..) ص 24

إلا أن شخصية "آليا" بدت لوهلة تعريفنا بها: صبية ساذجة بريئة، نقية، ينطبق قلبها كمحارة على آمال وأحلام بسيطة، باحثة عن ذاتها في مجتمع يريد أن يجعلها وهي في طور سحر النضوج كأنثى، أجمل الدمى فحسب، في حين تحدوها الرغبة في أن تكون على سجيتها، تفرغ ما تخبئه دواخلها بسهولة كلما دنت من الشاب "استيبان كوبيتا" فقط،، وهي بالتالي شخصية رقيقة وحساسة جدًا، حدّ شعورها أنها على وشك الموت، كلما هتكت ذكرى وفاة (مارتا ماتاراسو) العروس السابقة لها ذاكرتها (راودها إحساس بأن مارتا ماتاراسو موجودة في الغرفة نفسها، وإنها تعرض عليها الفراش المضمخ بالدم ...) ص238، لقد أبحر الكاتب إلى عمق تلك الروح رغم شفافيتها، محاذرًا هتكها، ليصوغ منها رمزًا لوطنها أو أن الوطنَ مختزلٌ فيها، تسأل استيبان:

(-: أهذا هو الوطن بالنسبة إليك؟

فقال استيان مباشرة بجدية: هذا ما أظنه.

-: .. فسيكون الوطن حسب ما قلته مختزلاً في شخصي المتواضع) ص 89

وستردُّ آليا" وهي ترفع ذقنها بكبرياء، على الجنرال النمساوي قائد حملة غزو وطنها، الذي وطىء منزلها ليلة زفافها:

-: أطالبك باحترام بلادي وزوجي أيها القائد) ص247

ولا يختلف كل من "استيبان" و"آليا" في مشاعرهما بشأن وطنهما فـ(بوعي اجتماعي طليعيّ بالنسبة إلى ذلك العصر، ذهب لمقابلة الثريّ "دون جيرينمو"، وقال له في وجهه: «إنّ الوطنية ليست السفر إلى نيويورك للتواقح وراء العاهرات.. إنما في البقاء هنا وتحمّل مسؤولية محنةِ مواطنيه) ص 302

لكن رؤية "استيبان" الفتى العاشق الشاعر، لمحنة وطنه، هي نبذ العنف إذ رفض الانصياع لسلطة أخيه الأكبر "رينو" عندما أمره بقتل آخر الجنود النمساويين، كمساهمةً رمزية منه في الدفاع عن الوطن وتخليدًا لاسم ابيهما القائد الأسطوري "كوبيتا" كما حرّر "استيبان" رسالة مؤثرة للجريدة الأسبوعية المقروءة في "جيما" أنهاها بـ«نداء الرحمة والتآخي بين أهالي الجزيرة جميعهم.. أدت تلك القطعة الأدبية إلى نتيجة فعالة في الجوّ الخامد للفلاحين، والصيادين، والفوضويين، والمنجمين، وليس هناك عجوزٌ إلاّ يصادق على أن ريشة جَدي كانت صاحبة الفضل في فتح الطريق أمام جيرينمو للوصول إلى الجميلة آليا إيمار..) ص 304

غير أن "استيبان" الشاعر الحالم الذي نأى عن صخب الحياة في الجزيرة، اكتشف متاخرًا شدة حبه لـ"آليا ايمار" مكتومًا في دواخله، وأدرك دورانه حول فلكها دون النفاذ إليه، وهو الذي هرب مع أقرانه الشباب، تاركًا وطنه "جيما" لقدره!، فأنهى حياته في الرحيل إلى منفاه" تشيلي"، فيما اختار أخوه نيويورك كمنفى. ويلخص حوارهما رؤية "استيبان" مخاطبًا أخيه:

(-: آليا إيمار رأت شيئًا في أعماق هذين العينين. لقد كانت رحلة انطلقنا بها معًا. طريق أعظم بكثير من هذا الذي قطعناه. كل شيء كان يمضي على ما يرام إلى أن خربته أنت باغتيالاتك القذرة، ودمائك الفائرة) وإن «الشيء الوحيد الذي أملكه أنا هو الألم، وهذا الدفتر الذي أجمعُ فيه أشعارًا من لا شيء، مجرد كلمات) ص 288 و292

وتلك العبارات هي التي ترجمت فلسفته في الحياة، وموقفه من (الحرب) التي تسببت في هزيمة بلاده وهزيمته الشخصية وخذلانه لوطنه ولنفسه ولحبيبته "آليا" إذ ترك خلفه في بلده، ما لا يمكن العودة إليه واستحالة استعادته بعد. إذ زُوّرت الوثائق التي تثبت، هروب أولئك الشبان، لتجعل منهم قتلى الجيش النمساويّ كي يكسب قائد الغزو مجدًا زائفًا، ولا «يبقى لهم ما يملكون من العالم سوى هوية المنكوبين باللجوء، والهاربين من بلادٍ لم تعد موجودة سوى في مخيلاتهم».

لم يرغب سكارميتا أن تكون روايته هذه ساخرة بحد ذاتها، لكنه كان جادًا في منح النص جرعات من الفكاهة والسخرية باعتبارهما قيمة أدبية لتطعيم فضاءات المأساة والخيبات بهما، فعبارات الفكاهة تردُ مثل دعابة ظرفية تعترض مسارات الدراما والتراجيديا كلما تصاعدت وتيرتها، وقبل تفاقم انفعال المتلقي حزنًا وتألمًا، وذا ما يؤهل النص إلى التماهي مع الحياة الواقعية، فالرواية هي الحياة، بأوجهها المهشمة والمتنافرة، وما يترسخ في الذاكرة من النص الساخر هو المشهد الذي يعبر عن واقع متخيل يمَكّن متلقيه مقارنته بالواقعي المعيش، ليكتشف حقيقته وعبثيته، وبهذا يكون - الكاتب قد عمد إلى إشراك المتلقي في تشكيل دلالة ما يحلم به من أحداث، ومن هنا (تتزاوج السخرية في وجهها الهازل مع الألم، فيأتي لوقعها  صدى غريب، يمتزج فيه اليأس والرجاء، المتعة بالضحكة، المأساة بالملهاة، فالسخرية رغم شكلها الهازل تنطوي على فجيعة مدهشة إزاء لا معقوليات الشر والخديعة في هذا العالم) د. شمسي واقف زاده. – pdf مقالة-

وكلما تأملت في أحداث رواية (عرس الشاعر) الصادرة عام 1999 خلتني أجسُّ فيها نبضًا من رواية (قصة موت معلن) لغارسيا ماركيز الصادرة عام 1981.

حيث يستند ماركيز في سرد رواية "قصة موت معلن" إلى وقائع محضر التحقيق بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على واقعة مقتل "سانتياغو نصار" ومثل ذلك يكشف سكارميتا عن قصة "ستاموس ومارتا تاراماسو" بعد مضي عشرين عامًا أيضًا على وفاتهما فيسردها، ليضبط بها إيقاع تراجيديا الحكاية الرئيسية لروايته (عرس الشاعر).

فسفر حكاية (ستاموس وعروسه) والنهاية الدراماتيكية لـهما في رواية (عرس الشاعر)، وقرار التوأمين فيكاريو بقتل "سانتياغو نصار" وتنفيذه فعلاً فيه، في رواية (قصة موت معلن)، راحتا منذ بدء الروي، تغذيان السرد في انثيالات مسارية وتوجهان حركة أحداثه بهاجس مقلق بل ومرعب، تمهد لحتمية – موت – في كلا الروايتين، فالذاكرة الجمعية لم تطو كلا الحكايتين إلى النسيان، بل ظلت تحمل لغز استمرارهما في كنفها، ولغز نبوءة حدوثهما، حتى أن القراء وأناس القريتين على السواء، لكلا الروايتين باتوا ينظرون إلى أن "جيرونيمو" و"آليا" ميتان لا محال، مثلما هو بطل رواية "قصة موت معلن" "سانتياغو نصار" تمامًا، وبهذا فالموتَ معلنٌ في كلا الروايتين كواقعة ممكنة الحدوث في ليلة الزفاف، بالرغم من أن الجميع يحاول مخاتلة ما قد يحدث بانشغالهم بتفاصيل حفلتي العرس الكبير، والتهيئة لتنظيمها. كما يلاحظ ايضا انه في كلا الروايتين، يضع الكاتبان مشهدي العرس لكليهما على طرفي نقيض، بين: الفرح والبهجة، والقتل أو الموت. حيث يُقتل "سانتياغو نصار" في الأولى فيما يقتل أو ينتحر التاجران العريسان (ستاموس وجيرونيمو) في الثانية وكذا تموت العروس الأولى الصبية الجميلة "مارتا" وتغتصب الشابة اليافعة "آليا" من قبل جنود الحملة النمساويين.


عدد القراء: 2878

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-