الأعمال العظيمة وقراؤهاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-06-05 02:36:19

د. أمير تاج السر

كاتب وروائي سوداني

أعلنت شركة «نتفليكس» مؤخرًا، عن نيتها إنتاج دراما تلفزيونية في حلقات متسلسلة، مأخوذة من رواية «مئة عام من العزلة»، الرواية الأكبر والأشهر للمعلم غابرييل غارسيا ماركيز، بعد موافقة الأسرة على ذلك، ليكون أول عمل درامي مستوحى من تلك الرواية الملحمية، التي ظلت بمنأى عن السيناريو والسينما، رغم صدورها أواخر ستينيات القرن الماضي، وعدم وجود عوائق فنية لإنتاجها دراميًا، إلا لو كان ماركيز هو من رفض إنتاجها، لأسباب لا يعرفها أحد، ومعروف أن رواية «الحب في زمن الكوليرا»، الرائعة الأخرى لماركيز، أنتجت سينمائيًا، وكذا «أحداث موت معلن»، تلك الرواية الفريدة التي تعرف نهايتها منذ البداية، وعلى الرغم من ذلك تظل مشدودًا لها.

نعم، نعرف منذ البداية أن سانتياغو نصار قتل في ذلك اليوم الصيفي الحار، ونعرف الذين قتلوه، والكيفية التي قتل بها، والدافع إلى ذلك، ونظل نبحث عن نهاية مع السارد، ربما هي نهاية أخرى نتمناها، أو نفكر أنها النهاية المثلى، مثل أن يكون موت البطل في بداية النص، مجرد كذبة، أو أن ثمة معجزة ستحدث ويعود إلى الحياة.

وقد اعتدت في قراءتي لكثير من النصوص الجذابة، خاصة في الأدب الإسباني، الذي أعشقه، أن أغرس أدوات الكتابة التي أملكها، في الصفحات، وتجدني في كثير من الأحوال أعدل في ذهني مواقف أراها باردة وبحاجة إلى حرارة ما، أو أبحث عن ثياب درامية أخرى للشخوص، يرتدونها في النص بدلاً من تلك الثياب التي عليهم.

هذا ليس انتقاصًا من النصوص بكل تأكيد، أو تشكيك في تماسكها وإمتاعها للقارئ، ولكن مجرد تسلية، لن تغير شيئًا من نص مكتوب على الإطلاق، وربما تكون تفاعلاً من قارئ أعجب بالنص، لدرجة أن يشارك في تحرير صفحات منه.

«مئة عام من العزلة» التي ستنتج مسلسلاً، ستحمل اسم «ماكندو»، ومعلوم أن ماكندو هي البلدة الأسطورية التي اخترعها ماركيز، هناك قرب الكاريبي، رسم تضاريسها، وبذر شخصياتها، وملأها بكل ما يمكن أو لا يمكن تخيله من أحداث، وبالطبع هذا قمة الفن، أن توجد مساحة من العدم، تلونها بألوانك الخاصة، ولا يستطيع كل من يطالعها إلا أن ينبهر، أو أكثر دقة معظم من يطالعها، لأن هناك قراء لم يتذوقوا «مئة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا»، و«إيرنديرا الغانية»، وكل روائع ماركيز أبدًا، وقد كتبت مرة عما سميته سوء التذوق، أو سوء النوايا، حين يقرأ أحدهم عملاً متفقًا على إبهاره، بنية أن لا ينبهر به، وهذا موجود وكثير عند قرائنا العرب، وحتى قراء الغرب.

الذي حدث أن هناك من لامني على ذلك، ومن ذكر بأنني أصادر حرية الناس في أن يتذوقوا ما يريدون، ويطردوا من التذوق ما لا يريدون، وإن كانت «مئة عام من العزلة» تعجبني، فليس بالضرورة أن تعجب أهلي وجيراني وأبنائي وأصدقائي، تمامًا مثل أصناف الطعام التي ترص على الموائد، فكل جالس على المائدة لديه طبق يحبه، وطبق لا يطيقه.

هذا صحيح بالطبع، فقط يبقى شبه الاتفاق على أعمال كتابية معينة عند قراء بلغات مختلفة، سيكون الموضوع أكثر قربًا للفهم، حين نتحدث عن رواية مثل «ذكرى عاهراتي الحزينات»، الرواية صغيرة الحجم التي كتبها ماركيز في أواخر عطائه، أي قبل أن يبتعد عن الكتابة لظروفه الصحية، وكانت استنساخًا لرواية «ياسوناري كواباتا» التي يراقب فيها الرجال المسنون، نوم فتيات صغيرات جميلات، مقابل أجر يدفعونه لصاحبة البيت. هذه الرواية التي تابعت مراجعات كثيرة لها، بالفعل فيها اختلاف آراء كبير، تراوح بين التمجيد واللوم، وفقط كان لومها أكثر كثيرًا من تمجيدها.

أعود لـ«مئة عام من العزلة»، التي اختيرت منذ أعوام، الرواية الأكثر تأثيرًا في عالم الكتابة، متفوقة على أعمال عظيمة مثل، «زوربا اليوناني» لكزانتاكيس، و«الصخب والعنف» لوليام فوكنر، و«الطبل الصفيح» رائعة الألماني غونتر غراس. لن أتحدث عما يعجب فيها، فكلها في رأيي جديرة بالإعجاب، ولكن عما يمكن أن يكون صعبًا في قراءتها لقارئ مبتدئ في الدرب، لم يتدرب جيدًا. نعم حتى القراءة تحتاج لتدريب مثل الكتابة تمامًا، وهناك قراء يدركون ذلك ويشيرون إليه ولطالما صادفتني عبارات توجيهية من قارئة، لصديقة لها تود قراءة كاتب ما، تنبهها إلى أفضل نص يمكن أن تبدأ به، وغالبًا يكون سهلاً، وخاليًا من نكهة التجريب. «مئة عام من العزلة»، مليئة بالحوادث، حوادث داخل ماكندو، وحوادث قريبة منها وأخرى تحدث في العالم البعيد وتتشابك معه.

الرواية مليئة بالأسماء أيضًا كعادة الروايات الملحمية، والروايات التي تهتم بحياة أجيال مختلفة، سنجد في النص أسماء بلا حصر لأفراد أسرة بونديا، وجيرانهم، وأهل ماكندو عمومًا، أسماء رجال ونساء وأطفال، من صميم البلدة، وغرباء يأتون ويذهبون. أسماء شوارع ومحلات تجارية وأنشطة مختلفة.

أبسط ما يفعله القارئ غير المدرب، أو القارئ القادم بسوء نية للتقييم أن يعلن ملله من رواية كهذه، أن يعلن تشتته وأنه لم يستطع إكمال النص، بسبب ما فيه من تفاصيل مزعجة، ويسرع إلى كتابة مراجعة يعلن فيها بكل بساطة، أنه خدع في ماركيز، و«مئة عام من العزلة»، ولا يدري كيف يعشق البعض هذه الرواية.

حقيقة هذه نظرة عامة، وما انطبق على هذه الرواية من تقييم جيد، أو تقييم ملول، ينطبق على أعمال أخرى صنفت عظيمة في تاريخ الكتابة مثل «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، التي قتلت قراءة وتحليلاً في وقت من الأوقات، وكان كل من يلتقيك يسألك: هل قرأت «اسم الوردة»؟ وتصبح غير مثقف، وغير جدير بالاحترام، إن ذكرت بأنك لم تقرأها. كذلك رواية «العطر» للألماني باتريك زوسكيند، ورواية «المريض» الإنكليزي السيرلانكي مايكل أودانجي، وهذه رواية عن الحرب لم تعجبني صراحة، على الرغم من أنها نالت حظًا كبيرًا من الانتشار، واعتبرت أفضل رواية في الروايات الحاصلة على جائزة مان بوكر البريطانية.


عدد القراء: 5224

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 2

  • بواسطة عمر النخلاوي من مصر
    بتاريخ 2019-08-21 06:49:04

    قراءة رائعة من الدكتور. لقد قرأت اقتباسا منها على مجلة موقع فأصارت فضولي لقراءة المقال كاملا: https://maw9e3.com/rodv

  • بواسطة رقية نبيل من مصر
    بتاريخ 2019-07-03 11:22:49

    قرأتُ مائة عام من العزلة وأنا بعد في الصف الثانوي،وكل الغرابة أو التملل اللذان صادفاني في أول الرواية نظرًا لتعدد الشخصيات أو عدم وجود خيط أحداث بعينه أتتبعه ،ذابا تمامًا فور أن اعتدت أسلوب الكاتب ، في تنوع الشخصيات هذا وتلاقي أقدارهم وفنائهم الواحد تلو الآخر .. حتى أتى النمل الأحمر على العضو قبل الأخير من شخوصها وأخذت العاصفة البيت القديم بآخر سلالة من أفرادها ، في التركيز على كل شخصية وعواطفها وحياتها وما آلت إليه آخرًا لشيء ساحرٌ بحق ، أعتقد أن خلق عدد كبير من الشخصيات والربط فيما بينها تشكل متعة كبيرة للعديد من مؤلفي الروايات ومنهم أجاثا كريستي والتي كانت قبل أن تعرف هركيول بوارو تستمتع بمجرد خلق مسرح والعديد من الممثلين فوقه تسميهم وتنسج حولهم القصص ،فقط هكذا، ثم كان نتاج ذلك عبقريتها في رصّ عشرات الشخصيات في جرائمها وتعقيد القصة لأبعد الحدود بقصصهم المتشابكة .. يقولون أن غابرييل غارسيا ماركيز قضى في كتابة هذه الرواية طوال حياته ، منذ كان في السابعة عشرة من من عمره وحتى شاخ وكبر ، أحيانًا الأعمال العظيمة تحتاج صبرًا ووقتًا طويل ، لا أدري كيف تنوي شركة نتفليكس إحياء عمل شديد التعقيد كهذا ، فقد اعتدت عدم الثقة بالروايات التي ستحول أفلامًا أو مسلسلات ، غالبًا ما تخيب ظني . لك أسلوب يأسر القارئ بحق أستاذي الفاضل ،شكرًا لإمتاعنا.

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-