اللص الذي أشعل القاهرة: محمود أمين سليمان.. أديب من نوع خاصالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-10-01 20:39:25

السمّاح عبد الله

مدير بيت الشعر المصري

لم يكن "محمود أمين سليمان" سفاحًا عاديًا من هؤلاء الذين يمكن أن نسمع عنهم، ولكنه كان أسطورة تمشي على قدمين، طلاب الجامعة كانوا يعلقون صوره في غرفهم، والأمهات في  المنازل كن يتوجهن لله بالدعاء لكي ينصره على من يعاديه، والمراهقات كن يتمنين أن يكون فرسان أحلامهن في تقاطيع وجهه الحادة، حتى حراس السجون كانوا يدعون له في صلواتهم، وقد نسج الخيال الشعبي للمصريين من قصته حكايات كثيرة، فقد حولوه من سفاح إلى بطل شعبي، مثله مثل "أدهم الشرقاوي"، وفي الوقت الذي كانت الصحف تنشر فيه أن وزارة الداخلية رصدت ألف جنيه لمن يرشد عنه، وهو مبلغ خيالي في ذلك الوقت، كانت قلوب المصريين تتوسل بالدعاء لأن يصرف الله نظر المرشدين عن بطلهم الذي كان يسرق في حكاياتهم من الأغنياء ليمنح فلوسه المسروقة للفقراء، الأمر الذي دعا "جمال عبدالناصر" نفسه أن يحذر الناس في إحدى خطبه من الافتتان به، لأنه لا يعدو أن يكون مجرد قاتل وسفاح.

الجرائد المصرية طوال عقد الخمسينيات من القرن الماضي كانت تقريبًا متخصصة في نشر صوره وأخبار مغامراته، كانت تنشر صوره وفي يرتدي بدلة ضابط بوليس، أو وهو يرتدي فستان امرأة باذخة الجمال، أو وهو في أسمال بالية واقفًا أمام أحد المساجد يتسول من زوار المقام، وكانت تخصص لأخباره وصوره مكانًا بارزًا في الصفحات الأولى بشكل يومي، حتى أن إحدى الجرائد لما لم تجد أخبارًا جديدة عنه، نشرت في صفحتها الأولى خبرًا عنوانه (السفاح في إجازة)، أما مضمون الخبر فقد قال إن السفاح "محمود أمين سليمان" لم يقم بالأمس بسرقة أحد أو قتله.

منذ طفولته الباكرة تعلم "محمود أمين سليمان" الخروج على النظام، كان يسرق السندويتشات والخيار والطماطم من زملائه في مدرسته الابتدائية بمدينة طرابلس اللبنانية، هو لم يكن لبنانيًا، بل مصري من صعيد مصر، تحديدًا من أبوتشت بمحافظة قنا، لكن أباه هاجر للبنان بحثًا عن لقمة العيش، ولما تكررت سرقاته، اتسع نشاطه خارج أسوار المدرسة، فكون عصابة من الأطفال ليسطوا على شقق الأثرياء اللبنانيين، كان خفيفًا كالقط، وسريعًا كالثعلب، ورشيقًا كالنمر، وكان يتسلق على المواسير ليدخل البيوت من النوافذ الخلفية، وقبل أن يبلغ التاسعة من عمره، كان قد أثار الذعر في المنطقة كلها، الأمر الذي جعل البوليس اللبناني يقبض عليه، ولما وجده طفلاً صغيرًا، قام بتسليمه لأبيه، مع أخذ التعهد عليه بعدم تكراره للسرقة.

الطموح الكبير الذي كان يتميز به الطفل، جعله ينظر لأبعد مما يراه أي لص عادي، فوضع عينيه على شقة ناظر المدرسة، وموجهي التربية والتعليم، وهكذا لما كبر، كبر معه طموحه، فاتجه مباشرة إلى بيت الرئيس اللبناني "كميل شمعون"، لم تكتف عصابته بسرقة السيد الرئيس، وإنما اشتبكوا مع الحراس، الأمر الذي نتج عنه قتل أحدهم، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقتل فيها "محمود أمين سليمان"، لكن بقية الحراس وصفوا ملامح أفراد العصابة للبوليس الذي استطاع بعد جهد أن يقبض عليهم.

أبوه عندما رأى بعينيه نتيجة أفعال ابنه التي خرجت تمامًا عن سيطرته، لم عزاله وصفى شركة شحن البضائع التي كان شريكًا فيها ببعض الأسهم، وعاد إلى مسقط رأسه، تاركًا ابنه في سجون لبنان يواجه مصيره، كان الابن قد تعلم بعض فنون التخفي، وعرف بعض آليات الخداع، من خلال ما كان يقرأه في فترات راحته من روايات وقصص، كان ذا خيال جامح، وذا موهبة فريدة في ابتداع أساليب غير معروفة للهروب، وقد استطاع الهروب بالفعل، ليس من السجن فقط، بل من لبنان كلها، وعاد إلى مصر، كان بلا فلوس، وبلا أصحاب، فباع أملاك أبيه في الصعيد بعد وفاته، وقرر أن تكون الإسكندرية محله المختار.

في الإسكندرية صرف كل فلوسه في الحانات، وعلى مناضد القمار، وعاهرات المراقص الشعبية، وحكاياته في الإسكندرية مع النساء، تعدت الحدود الإقليمية والمحلية، وامتدت للجاليات الأوربية التي كانت تسكن الإسكندرية، وكثيرًا ما كانت تنتبه المرأة التي يشاركها سريرها في الليل، إلى اختفاء مصاغها الذهبي في الصباح، وبدأ يمارس هوايته في السطو على المنازل، الأمر الذي جعل الأموال تتكاثر في جيبه مرة أخرى، لكنه عرف أن البوليس السكندري حفظ ملامح وجهه، فغادر إلى القاهرة، كان قد توسع في قراءة الروايات والقصص، وعرف أسماء بعض المبدعين، فأطلق على نفسه لقب راعي الثقافة والإبداع، ومنح نفسه لقب الدكتور، وطبع كارتًا كتب فيه اسمه هكذا، الدكتور الأديب "محمود أمين سليمان"، وأسس دارًا للنشر، وبدأ في استقطاب المبدعين حوله، بعد أن تحولت قعدته في دار نشره إلى ما يشبه الندوة التي يرتادها الكتاب والفنانون، وقد ساعدته ثقافته التي استقاها من قراءاته المتنوعة في أن يكون صاحب آراء في الكتابة والكتاب، كان يستدرجهم في الكلام حتى يعرف ما يريد معرفته، ليس من أجل الاستزادة في المعرفة، وإنما من أجل تنفيذ خططه الخاصة.

مرة، سمع من الشاعر "كامل الشناوي" كلامًا خياليًا عن النخلة الذهبية التي أهداها أمير البحرين لـ"أحمد بك شوقي" بمناسبة تنصيبه أميرًا للشعراء عام 1927، وأن هذه النخلة مازالت قائمة إلى الآن في بيته المسمى بكرمة ابن هانيء على ضفاف نيل الجيزة، تبرق إذا ما تسللت إليها أشعة الشمس من النافذة.

"كامل الشناوي" أحد أجمل الأصوات التي كانت تلقي الشعر بإبداع فريد، وقد كان أمير الشعراء الذي لم يكن يحسن إلقاء شعره، يختاره لكي يقرأ قصائده في الندوات، لكن "محمود أمين سليمان" كان يستدرج "كامل الشناوي" في الكلام عن "شوقي" وعن نخلته العجيبة، فيسأله:

وهل لهذه النخلة بلح كالنخل العادي؟

كان سؤاله يبدو طبيعيًا، لذلك فقد أجابه محدثه بعفوية تامة:

     نعم لها بلح، لكنه من الزمرد والياقوت.

وفي اليوم الثاني، نشرت الجرائد خبرًا في صفحة الحوادث عن سرقة النخلة الذهبية من كرمة ابن هانيء، وأشارت إلى أن اللص كان حريصًا جدًا، حتى أنه لم يترك أي أثر يدل عليه، لدرجة أن النافذة التي كانت ترسل أشعتها لتبرق بلحات النخلة، لم ينكسر زجاجها، وتعجبت الصحيفة، من أين إذن دخل وخرج اللص، بالنخلة الثمينة والأبواب كلها موصدة، والحراس صاحون؟.

مرة، وجه الكاتب الصحفي "مصطفى أمين" لأصدقائه في دار النشر هذه سؤالاً بسيطًا:

هل شاهدتم الصورة التي نشرتُها اليوم لـ "أم كلثوم" في أخبار اليوم؟.

هم من محبي "أم كلثوم"، وكانوا قد شاهدوا صورتها بالفعل، فأجابوه بالإيجاب، فاسترسل قائلاً:

دققوا النظر في البالطو الفرو الذي ترتديه، إنه بسبعة ألاف من الجنيهات.

"محمود أمين سليمان" قال له باندهاش كبير:

لا بد أن "أم كلثوم" واضعة حرسًا كثيرًا على فيلتها، مادام فساتينها غالية هكذا.

بتعجب أكبر أجابه "مصطفى أمين":

ومن هذا الذي يطاوعه قلبه على سرقة كوكب الشرق؟.

لكن "مصطفى أمين" نفسه، اضطر في اليوم التالي لأن ينشر في صدر صحيفته، خبرًا عن سرقة ملابس ومجوهرات وتحف نفيسة من فيلا "أم كلثوم".

وهكذا، كان اللص الذكي يستدرج متحدثيه، ليعرف تفاصيل كثيرة عن محتويات بيوت الفنانين والأدباء وأصحاب المال، وكان أصدقاؤه الذين يترددون عليه ويتردد عليهم، كثيرين جدًا، من بينهم "عبدالحليم حافظ"، و"حسن فايق" و"فؤاد المهندس"، ومن بينهم صحفيون ومحامون، ومن هؤلاء المحامين، المحامي "بدر الدين أيوب"، الذي نشأت بينهما علاقة وطيدة.

لما قبض عليه، وأودعوه في حبسخانة محكمة عابدين، قابله الشاعر "أحمد فؤاد نجم" الذي كان متهمًا بالتزوير في استمارات القماش، وعندما عرف تهمته قال له باستهزاء:

يا خيبتك.

"أحمد فؤاد نجم" اندهش من استهزائه به، وسأله:

إذن فما هي تهمتك أنت؟.

ضحك وقال له:

سأحكي لك كل شيء، ولكن ليس الآن، فأمامنا في السجن متسع من الوقت لأحكي لك كل شيء.

وفي السجن، حكى له حكايته كلها.

حكايته كلها كانت حتى هذه اللحظة حكاية عادية، صحيح أن فيها بعض الغرابة بحكم نجومية من قام بسرقتهم، لكن الجانب الأسطوري في شخصيته لم يكن قد بدأ بعد.

في ليالي السمر الطويلة، سأله الشاعر كيف قبض عليك وأنت بهذا القدر من الذكاء؟.

وقص عليه قصة "محمود عبدالعظيم" شقيق زوجته "نوال" التي أحبها حبًا يفوق الخيال، وكيف أن شقيقها هذا كان يعمل مرشدًا للبوليس، وهو الذي أرشد عنه.

حتى هذا الأمر كان أمرًا عاديًا، أما الجانب الأسطوري في حياته، فلم يبدأ إلا عندما لاحظ أن صديقه المحامي "بدر الدين أيوب" كان يتعمد عدم حضور جلسات المحاكمة لإطالة أمد حبسه، وفي إحدى الزيارات أخبره بعض الوشاة بالخبر الذي زلزل كيانه كله، وزلزل كيان مصر كلها طوال عقد الخمسينيات من القرن الماضي:

صديقك المحامي "بدر الدين أيوب" الذي فتحت له بيتك، وعاملته كأخ شقيق، من مصلحته ألا تخرج من السجن نهائيًا، لأنه ببساطة ينام في فرشتك، ويأكل خبزتك، ويصرف فلوسك، ويضم بين ذراعيه، كل ليلة، زوجتك "نوال"، التي اتفقت معه على تثبيت جميع التهم عليك، لكي تطلب الطلاق منك، وتتزوجه.

كان متهمًا في ستين قضية سطو وسرقة، كل قضية تؤكد أنه رجل غير عادي، خارق الذكاء، ولولا اعترافاته ما عرف البوليس شيئًا عن هذه السرقات، لكن اعترافاته التي كانت تتسابق الصحف على نشر فصولها، فتحت الباب على مصراعيه للكثير من اللصوص عاطلي الذكاء لكي يقلدوه، لدرجة أن ضابط المباحث في إحدى اعترافاته، استوقفه متسائلاً:

إن هذا القصر الذي تقول إنك فرغته من محتواته محاط بالكلاب، فكيف لم تنبح عليك وأنت تتسلق السور؟.

رد عليه كما يليق بعالم:

كنت أسلط ضوء البطارية على عيون الكلاب، وضوء البطارية عندما يتخلل عيون الكلاب يصيبها بالخرس.

عاد إلى هوايته القديمة في الهروب، لا أحد يعرف كيف هرب من السجن ومن ستين قضية، كان قد اعتنق قضية وحيدة، وهب لها ما تبقى من عمره لتحقيقها، قتل زوجته "نوال"، والمحامي "بدر الدين أيوب"، وظهر على السطح وجه آخر له، غير وجه السارق، وهو الوجه الذي اشتهر به، السفاح، لأنه كان يقتل على الشبهة، كلما رأى رجلاً يشبه المحامي، يطلق عليه الرصاص، وينسل كالنمر فلا يعثر له على أثر، وكلما رأى امرأة تشبه زوجته، يطلق عليها الرصاص، ويختفي كالذئبق، قتل رجالاً كثيرين، لمجرد أنهم يدورون في فلك المحامي، نادل المقهي الذي يجلس عليه، لأنه لا يريد أن يخبره عن مواعيد حضور المحامي، خادم مسكين حاول أن يضلله عن مكانه، سائق حاول أن يعطي إشارة ضوئية للبوليس، أما النسوة، فقد قتل منهن عددًا غير قليل، كلهن كن يدرن في فلك زوجته، بمن فيهن أختها، التي تلقت الرصاصة بدلاً عنها، ومن غرائب المقادير، أن الاثنين المقصودين هما دائمًا اللذان يفلتان من رصاصه، الذي يصيب غيرهما.

المجرمون الآخرون العاطلون عن الذكاء، استغلوا اسمه، فظهر أكثر من سفاح في وقت واحد، كانت جريدة الأهرام تنشر أن السفاح قتل رجلاً واستولى على فلوسه في حدائق المعادي بالقاهرة في تمام الساعة العاشرة مساء، وجريدة الأخبار تنشر أنه قتل امرأة وهي خارجة من حمامها في بيتها بمرسى مطروح، وقد قطع السفاح حلمتي أذنيها وهو يشد منهما الحلق الذهبي، وكان ذلك في تمام الساعة العاشرة مساء، أما الفنانون فقد تقدم كثير منهم بشكاوى للبوليس، وقدموا له تهديدات ورقية مكتوبة لهم، تطالبهم بدفع مبالغ مالية كبيرة وإلا سيكون مصيرهم القتل، من هؤلاء "تحية كاريوكا" و"مريم فخر الدين" و"ماجدة الصباحي" والكاتب "أبو السعود الأبياري" والمقريء الشيخ "طه الفشني"، لكن البوليس استطاع أن يعرف أن السفاح الحقيقي بريء من هذا الخطابات، وأنها صادرة عن المجرمين العاطلين عن الذكاء الذين استغلوا حالة السفاح الإعلامية ليأكلوا عيشًا على حسها.

الكاتب "محمد حسنين هيكل" رئيس تحرير الأهرام تلقى رسالة من "محمود أمين سليمان"، تقول كلماتها:

أنا لست مجرمًا كما أطلق عليّ، أنا رجل شريف، ولا أبغى من ذلك كله غير شيء واحد فقط، هو قتل زوجتي وقتل المحامي "بدر الدين أيوب" اللذين خاناني.

وفي نهاية الرسالة طلب منه أن يخصص يوم الثلاثاء من كل أسبوع لينشر فصلاً من مذكراته، وحدد هو العنوان بنفسه، ("محمود أمين سليمان" يتكلم بعد صمت طويل)، وكانت رسالته مليئة بالأخطاء النحوية واللغوية، لكنها كانت مملوءة بالجراح.

نهايته كانت متوقعة، لكنها حادة، تمامًا كنهايات الأساطير، حيث استطاع البوليس أن يتتبعه حتى حاصره في مغارة في حلوان بجنوب القاهرة، واستمر الحصار طويلاً، تم خلاله تبادل الرصاص، وكما في الأفلام، طلب أن يتحدث إلى رئيس الفرقة المحاصرة، فاستمع إليه، فخرج، وخطب خطبته الأخيرة، "زاعقًا" أمام الجميع:

لست سفاحًا، أنا صاحب قضية، أريدكم أنا تأتوا لي بزوجتي "نوال" لأقتلها، ثم أسلم نفسي بعد ذلك.

الرصاص الذي هطل عليه بعد خطبته، جعل جسمه كالمنخل، وجعل جثته تلف على رمال صحراء حلوان عدة لفات، وجعل النساء في المنازل تبكي عليه كما لو كان ابنهن المغدور، لكن زملاءه في غرفة عنبر (ب) بالسجن أقاموا له ما يشبه المأتم المكتمل، كانوا كلهم محزونين، الهجامون والقوادون ومزيفو العملات الورقية والمعدنية، الحراس والجلادون والنوباتجية، الشاويشية والتومارجية وجامعو الزبالة، ولما وقف مطرب العنبر "أحمد الشبراوي" عرف المكلومون أن حصة الوجد قد ابتدأت، فالتفوا حوله في دائرة متسعة، وكانوا يردون على غنائه وهم يبكون:

     من فوق شواشي الجبل أسمع نغم بالليل

    غاب القمر م السما بكيت نجوم الليل

     نزلت دموعهم مطر ع الكون غرق في الليل

     آه يا نا يا وعدي.

لكن "مصطفى أمين" صديقه القديم، أراد أن يكون سباقًا، فخصص المانشيت الرئيسي لجريدة الأخبار لمقتله، وقتها لم يكن الكمبيوتر قد تم اختراعه بعد، وكانت الجرائد تستعين بخطاطين يكتبون لها عناوين الصفحة الأولى بالخطوط الحمراء العريضة، وهكذا، خرجت جريدة الأخبار في العاشر من أبريل عام 1960، تحمل مانشيتًا شديد الغرائبية:

(مصرع السفاح عبد الناصر في باكستان).

 في ذلك التوقيت كان الرئيس "جمال عبدالناصر" في زيارة رسمية لباكستان، لكن خبر مصرع السفاح كان يهم القراء أكثر من خبر زيارة الرئيس لأي دولة، لذلك نشر "مصطفى أمين" المانشيت الرئيسي للجريدة (مصرع السفاح)، وتحته مباشرة، (عبد الناصر في باكستان)، وليس بينهما فواصل أو نقاط من أي نوع، وعلى اليمين صورة السفاح مقتولاً، وعلى اليسار صورة "عبدالناصر" متجهمًا، ونحن نعرف أن "مصطفى أمين" لم يكن يحب "جمال عبدالناصر"، كما نعرف أن "جمال عبدالناصر"، لم يكن يحب "مصطفى أمين"، لكنْ لا أحد في الدنيا كلها يستطيع أن يعرف إن كان المانشيت مقصودًا، أم مجرد سهو مر على جميع المحررين، وكافة رؤساء الأقسام، وعمال المطابع، لكن النتيجة كانت قرارًا سياديًا بتأميم الصحافة كلها في مصر، بعد عشرين يومًا فقط من نشر هذا المانشيت الذي دخلت الصحافة بسببه النفق المظلم، ولم تخرج منه أبدًا، منذ أن أصبحت بعد التأميم ملكًا للاتحاد القومي، ثم للاتحاد الاشتراكي، وبعدهما للدولة مباشرة.

في ركن منزو من مقهاه العتيق، جلس "نجيب محفوظ"، وأمامه عدد لا نهائي من الجرائد التي كانت تتابع أخبار السفاح، وكان يقرأها بعناية كبيرة، ثم يخطف رجله إلى القرافة المجاورة، قرافة نصر الدين، ويلقى السلام على الأموات الذين سبقونا إلى المستقر الأبدي، وكان يستأذنهم في أن يسكن بطل قصته الجديدة في ديارهم العمرانة، حتى يقرر هو مصيره، الأموات الذين سبقونا إلى المستقر الأبدي، لما تيقنوا من صدق نواياه، وتأكدوا من قدرته السردية العالية، ولمسوا جمالياته في إنشاء الجملة اللغوية التي تحمل بعدًا فلسفيًا، وافقوا بالإجماع على مقترحه، كحل درامي لمأزق الشخصية المركبة.

كان "نجيب محفوظ" في شهور الكتابة المعلومة، يكتب عن الفتاة الطيبة التي تذوب عشقًا في اللص الذي تحاصره الكلاب، وكيف أنها تبذل جسمها كل ليلة لذئاب المواخير لتحصل منهم على فلوس، تمنحها له، وهو يأخذها منها لكي يقتل الكلاب، وعندما سأله "محمد حسنين هيكل" عن روايته الجديدة التي سينشرها مسلسة في الأهرام، سلمه فصولاً مخطوطة لرواية اللص والكلاب، وتركه ومضى، ولما بدأ "هيكل" يتصفح الورقات، ويتعرف على ملامح الشخوص، برقت عيناه، وتذكر الرسالة التي أرسلها له "محمود أمين سليمان"، فاستخرجها بأخطائها النحوية واللغوية، وفردها بجوار أوراق الرواية المخطوطة، وأعاد قراءتها، وكان ينقل بصره بين خط "نجيب محفوظ" الدقيق، المحلى بالاستبطان المعرفي، وخط "محمود أمين سليمان" العشوائي، الذي تشوبه الأخطاء الإملائية والنحوية، وكان يقرأ:

أنت أهم ما في الحياة اليوم، وستظل كذلك حتى تزهق روحك، إنك مثار الخوف والإعجاب كالظاهرات الطبيعية الخارقة، وسيدين لك بالسرور كل من خنقه الملل، أما مسدسك فالظاهر أنه لا يقتل إلا الأبرياء، وستكون أنت آخر ضحية له.


عدد القراء: 3898

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 2

  • بواسطة محمود عبد الصمد زكريا من مصر
    بتاريخ 2020-10-05 12:49:45

    أحسنت يا صديقي الشاعر الكبير / السماح عبد الله الأنور .. لقد أضأت الكثير من الجوانب التي لم تتناولها الرواية ولا يعرفها الكثير ممن شاهدو الفيلم الذي أبدع الفنان شكري سرحان فيه تشخيص شخصية السفاح وأبدع نجيب محفوظ فيه رسم ملامح الشخصية غير أن الرواية والفيلم أغفلت الكثير من التفاصيل التي ألقيت أنت الضوء عليها .

  • بواسطة محمدعيادعلوان من مصر
    بتاريخ 2020-10-02 20:55:55

    من اجمل ما قرأت في الأدب والسياسة، كاتبة بارعة بالفعل وذات اسلوب ساحر وجذاب منتهى الروعة

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-