اللحظات الأخيرة (قصة قصيرة)الباب: نصوص

نشر بتاريخ: 2020-10-02 10:18:58

عمر علي فضل الله

روائي سوداني

أكتب إليك في أجواء عصيبة جدًا، حيث العدو يشن علينا غارات من عدة جهات، منذ أمس بدأت أجواء المعسكر أكثر توترًا بعد مقتل قائدنا، ومنذ لحظتها لم نك مستعدين لفعل شيء أخر غير الترقب، حتى أننا لم نأكل بعد وبدأ الماء الذي بحوزتي يقل شيئًا فشيئًا، لأنني كنت أردم هوة الجوع به فاستنفذت أكثر من حصتي بكثير كحال كل المعسكر، مورد الماء بعيد من هنا ولا يمكننا أن نصل إليه بأي حال من الأحوال، فقدت معظم رفاقي حتى ياسين فارقني منذ لحظات تحت وطأة الألم، لحقت به طلقة قاتلة بعد منتصف الليل حين حاول الخروج لقضاء حاجته، ليست الصعوبة في تقبل رحيله وإنما فيما تركه لي أو ما الذي يجب علي فعله، على أي حال هنالك أمل وحيد لكي ننجو هو أن توقع الحكومة هدنة مع حركات المقاومة وتقوم منظمات الأمم المتحدة بحمايتنا إلى حين، لكني أرى ذلك بعيدًا وبطيئًا.

لا أعرف عن ماذا أكتب إليك فأنا أود أن أعرف عنك أكثر مما أود إخبارك به، على الأغلب تشاركني التردد ذاته والشعور، على أي حال سأفترض أنك بخير، منذ أن وصلنا المعسكر قبل سنوات كتبت مئات الرسائل لك وأحرقت معظمها لأن تغيرات جديدة وأحداث مهمة قد حدثت مؤخرًا، وفي الغالب ستكون هذه الرسالة الأخيرة..

قبل سنتين طلبت من القائد إجازة لأن أمي وحيدة وتصارع المرض فوافق على مضض لكني كنت أحتاج لقاءك فقط ، أمي ماتت قبل عشر سنوات بصدمة سكّري عندما بلغها خبرًا عن وفاتي، وعندما تسللت خارج المعسكر تحت جنح الليل كانت الحكومة تنصب كمينا لرفاق الكفاح فوقعت فيه وتم أسري، حينها تصاعدت أمنياتي وأشواقي إلى السماء كدخان كثيف قبل أن تبعثرها رياح جنوبية شديدة السرعة، كنت أفكر في لقائك، أعيش لهفته على النحو الخاص، أجدني أقترب منك محملاً بأشواقي الكثيفة، أطرد عني كل سنوات الفقد ولحظات الغياب وأستبدلها بلحظة وحيدة ، لحظة تنتهي عندها كل همومي المبعثرة وتعالج فيها كل جروحي المثخنة، تتبدد، تختفي، تحيل وجهي الموغل في الترقب إلى الحضور والاكتفاء، لحظة رؤيتك هي كل الأماني والأحلام المؤجلة، أعني بقدر أكبر إنهاء ملحي وعذاباتي الطويلة عند يديك الناعمتين، كما أود أن أرتوي وأنا المشبع بعطش السنوات على شفتيك الممتلئتين، أن أغوص بين يديك دون أن أسمع صافرة أو حتى أكون في انتظار لحظة ترقب قادمة، بقدر لا ينتهي، أبقى هناك، أشعر بك تملئنني بالحضور تعويضًا لفقد كبير، أتعرفين كيف يكتب الرفاق هناك رسائلهم؟

جميعنا نتشارك حالة الفقد، الشوق، الأمنيات والأحلام، الفكرة والهدف، أعني أننا نعمل كمجموعة نتشارك في الغالب كل شيء، نتظاهر بالقوة، نصفق حين يخطب فينا، نصرخ حتى نصاب بالصمم، تعتلي وجوهنا ابتسامة كاذبة كل هذا لأننا تركنا كل شيء حتى أسرنا من أجل القضية لكننا ليس كذلك، أجل نتشارك حتى هذا والقائد أيضًا يعرف ذلك والخطيب والسياسيون والمقاومة، كلنا نعرف ذلك وكلنا كذابون ولكننا نتظاهر بأننا أقوياء، على أي حال هي حالة اعتياد مطلوبة ، عندما يأتي الليل نختبئ بداخله كالجنين في رحم أمه ، نلوذ عن الآخرين بهمومنا وفواجعنا نحدث أنفسنا، نسامرها، نبكي على لحظاتنا القاسية، نتلمس أجسادنا، نمر على الجروح والكدمات، نتجاوزها لهم أكبر لكنها تستدعينا باستمرار لأنها في مرحلة الشفاء، نمسح عليها، نحاول أن نزيل عنها الأوساخ وطبقات الدم المتجمدة، نشعر بالألم لكننا نفعل ذلك حتى يسيل الدم من جديد، نتركه فيعود لحالته مجددًا ونظل نفعل ذلك لأيام، ننام بنصف قلب ونصف وقت ونصف اهتمام، أي أننا نجعل وضع الاستعداد قائما على الدوام، نستيقظ في الصباح الباكر وأعيننا بادئ عليها الإرهاق والتعب، يطلب منا أن نتقسم إلى مجموعات لتجهيز الأكل وجلب الماء ومهام أخرى، لكننا بمرور الوقت تعودنا على مصيرنا من أجل القضية رغم أن بعضنا شعر بعدم جدواها لأن السياسيين بدؤوا المتاجرة بها.

كيف بدت حياتك بدوني؟

لا أعرف ما إذا كنت سأسميها حياة جديدة أم هي فترة كنت أملؤها بذكرياتك للحد الذي لم أفكر فيه كيف أبدو للآخرين؟

أعني بقدر أكبر كنت مهووسًا بك أكثر من أشيائي الأخرى.

وأنت كيف كانت حياتك؟

ليست هي حياة إنما مصير موغل في الفقد، كنت أعيش هاجس الغياب دائمًا فلا أعرف ما إذا كنت سأسميها حياة أم هي مرحلة سيئة أبقاني فيها الأمل وحده إلى الآن.

أنا أتفهم حركة يديك الآن وضربات قلبك المتسارعة وتكور نهديك وأنفاسك المضطربة، أتفهم كل المشاعر المتعاقبة كخلية نحل نشطة، أتفهم جدواها ومآلاتها، لكنه المصير حبيبتي، قدرنا أن نتشارك الهاجس والترقب والفقد والمصير واللقاء.

آ آ آه يبدو أنني أفترض أشياء أكثر مما ينبغي علي التفكير فيها، رغم كل شيء حولي الآن، جثث، دماء، أنين وألم، مصير مجهول إلا إنني أشعر بمنفذ سيخرجني إليك لكي أنهي حياتي عندك.

مازال العدو يواصل القصف، لو كان بإمكانك سماعه الآن لشاركتني حالتي البائسة، على أي حال إن لم أعثر على المنفذ أتمنى أن تصل إليك رسالتي الأخيرة.

ياسين ترك لي ورقة وقلم وأخبرني أن أكتب رسالة إلى زوجته وأنه كان يتمني لقاؤها كآخر شيء يود أن يلتقيه من الحياة ولكني ملأتها بما كتبته إليك، لم أك قادرًا لكي أتحرك إلى شنطتي لأستخرج منها أوراق جديدة ولا حتى بقية رسائلي القديمة، قبل ساعتين من الآن فقدت رجليا وفقدت القدرة على التحرك والآن فقدت القدرة على الكتابة أيضًا، سأحتفظ بالرسالة في جيبي على أي حال

كنت أود أن أقول أكثر...

أحبك. تختصر كل ما أود قوله.

 

سالم / ياسين .. صيف 1996.


عدد القراء: 2762

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-