موقف شعراء الجاهلية من الطقوس الدينية في عصرهمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 13:56:55

حسن الحضري

عضو اتحاد كتاب مصر

حين حارب المشركون دعوة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأرادوا صدَّ الناس عن اتِّباع رسالته؛ اتَّهموه بأشياء كثيرة؛ فقالوا: ساحر؛ وقالوا: كاهن؛ وقالوا: يريد الجاه والسلطان.. وقالوا غير ذلك الكثير، لكن لماذا قرنوا الدعوة إلى تَرْكِ آلهتهم، بالشِّعر، كما ذكر القرآن الكريم عنهم، في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوٓاْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٖ مَّجۡنُونِۭ ) [الصافات: 36]، ولماذا قالوا ذلك بصيغة الاستنكار والسَّبِّ، بالرغم من أن الشعر كان موضع الفخر الأول في حياتهم؟! فقد روى ابن سلَّام [ت: 232هـ](1): «قال عمر بن الخطاب [ت: 23هـ](2): كان الشعر عِلم قوم لم يكن لهم عِلم أصح منه»(3)، وإنَّ أمَّة يحتل الشعر لديها هذه المكانة، لن يجعلوه سُبَّةً يتَسابُّون به فيما بينهم، فالقضية لها بُعدٌ آخر، ولذلك أردفوا بقولهم (مجنون) كما ذكر الله تعالى عنهم.

وعند استقراء موقف شعراء الجاهلية من آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، وطقوسهم الدينية التي كانوا يمارسونها؛ تتضح لنا الإجابة على هذا السؤال؛ فقد كان مشركو الجاهلية يعلمون في قرارة أنفسهم، أن أصنامهم التي اتخذوها آلهة، لا تضر ولا تنفع، وبالرغم من ذلك لم ينتهوا عن عبادتها، فهم إنما اتخذوها من قَبِيل العادة والتقليد، كما يروي لنا القرآن الكريم في أكثر من موضِع؛ حيث يقول تعالى: (قَالُواْ وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَٰبِدِينَ ) [الأنبياء: 53]، ويقول:

(قَالُواْ بَلۡ وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا كَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ ) [الشعراء: 74]، ويقول أيضًا: (بَلۡ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ ) [الزخرف: 22]؛ وكانوا يؤلِّهون أكثر من صنم وليس صنمًا واحدًا، فلم يكن لهم ثبات أو إخلاص؛ لأنهم يعلمون أنها أصنام لا تضر ولا تنفع، قال الزركشي [ت: 794هـ](4) في تفسير قول الله تعالى: ( وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ ٣ وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمۡ ) [الكافرون: 3 - 4]: «المضارع يدل على الدوام، بخلاف الماضي، فأفاد ذلك أن ما عبدتموه ولو مرة؛ ما أنا عابد له البتة»(5)، ففي هذه الآية دليل على أنَّ منهم من كان يعبد إلهًا بعينه ثم يتحول إلى عبادة غيره.    

وكانوا يقاتلون من أجل آلهتهم المزعومة، وينسبون إليها القدرة على التصرف، إلا أن شعراءهم كانوا يواجهونهم بواقعهم الأليم، ويسبُّون تلك الآلهة حين تتعارض مصالحهم مع شيء من طقوسهم التي يمارسونها نحوها؛ ومن ذلك ما فعله امرؤ القيس [ت: 545هـ](6) حين عصى القِداح التي ضربها عند ذي الخلصة، بشأن خروجه لطلب ثأر أبيه، وذكر ذلك في رجَزه، فقال:

     لو كنتَ يا ذا الخلَصِ الموتورا

     مِثلِي  وكان شيخُكَ  المَقْبورا

     لم تَنْهَ  عن  قتلِ  العـداةِ زُورا

وذو الخلصة هذا صنمٌ لهم، كان بتبالة بين مكة واليمن(7).

ومن ذلك أيضًا قول المِلْكاني(8):

أتينا إلى سعدٍ ليجمَعَ شمْلَنا

                       فشتَّتنا سعدٌ فلا نحنُ مِن سعدِ

وهل سعدُ  إلَّا صخرةٌ بِتَنُوفةٍ

                       من الأرض لا تدعو لِغَيٍّ ولا رُشْدِ(9)

وسعدٌ المذكور هذا كان صنمًا لبني مِلْكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فأقبل رجل من بني مِلْكان بإبله، يلتمس بركته، فلما رأته الإبل، وكانت مرعيَّة لا تُركب، وكان يهراق عليه الدماء؛ نفرت منه، فذهبت في كل وجه، وغضب الملكاني، فأخذ حجرًا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك، نفرتَ عليَّ إبلي!! ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له؛ قال.. البيتين(10).

ونحو ذلك صنع جعفر بن أبي خلاس الكلبي(11) حيث قال:

نفرتْ قلوصي مِن عتائرَ صُرِّعتْ

                            حول السُّعَيْرِ تَزورُه ابنَا يَقْدُمِ(12)

وجموعُ يَذْكُرَ مهطعينَ جنابَه

                                مــا إنْ يُحِيرُ  إليهمُ  بِتَكَلُّمِ(12)

والسُّعَيْرُ المذكور هو صنم كان لبني عنزة، ويَقْدُمُ وَيَذْكُرُ: ابنا عنزة(13). 

وكذلك خزاعي بن عبد نهم(14)؛ الذي كان سادن «نهم»، فلما سمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ثار على الصنم فكسره، وأنشأ يقول:

ذهـــبتُ  إلى  نَــهـْمٍ  لأذبــــحَ  عندَه

                         عتيرةَ نُسْكٍ كالذي كنتُ أفعلُ

فقلتُ لنفسي حين راجعتُ عقْلَها

                         أهذا إلــهٌ، أيُّكم  ليس يَعـقِــــلُ

أبَيْتُ  فَدِيني  اليوم  دِينُ  محمَّدٍ

                         إلهُ السَّماءِ الماجدُ المتفضِّلُ(15)

فنلاحظ أن الشعراء كانوا أسرع إلى الاعتراف بما يخفون في أنفسهم، ويجهرون بالحق الصريح؛ وهو أن تلك الأصنام التي يعبدونها لا تنفع ولا تضر؛ ولا شك أنَّ من كان يعترف بهذا الواقع كان يَلقَى شيئًا من العقاب المجتمعي بشكلٍ أو بآخر؛ فذلك المجتمع الوثني كان يرى أن المصلحة العامة في تلك الوثنية، ومِن الوارد أن يعاقب أفراده الذين يخرجون على نهجه، ولذلك حين بعث الله النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بدعوة التوحيد، وأراد المشركون أن يصرفوا الناس عنه؛ زعموا أنه شاعر من الشعراء الذين يَهجُون آلهتهم ويسخرون منها، ولذلك وصفوه بالجنون، وهم يعلمون أنه نبيٌّ مرسل؛ قال تعالى: (قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ ) [الأنعام: 33].

وقد ردَّ عليهم القرآن الكريم بشأن الشعر، فقال تعالى: (وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ) [يس: 69]؛ لأنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- يحمل رسالة من عند الله سبحانه، وكانت العرب أمَّةً شاعرة، فلو كان النبي شاعرًا؛ لظنَّ المشركون أن ما يأتي به ما هو إلا من خيالات الشاعر، التي تسيطر عليه، فيتحقق منها ما يتحقق، ويخفق منها ما يخفق.

 

الهوامش:

(1) «الأعلام» للزركلي (6/ 146)، طبعة: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة 2002م. 

(2) المصدر السابق (5/ 45- 46).

(3) «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام (1/ 24)، تحقيق: محمود محمد شاكر، طبعة: دار المدني- جدة.

(4) «الأعلام» للزركلي (6/ 60- 61).

(5) انظر «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (3/ 21)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة: دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى 13هـ- 1957م.

(6) «الأعلام» للزركلي (2/ 11- 12).

(7) انظر «الأصنام» للكلبي (ص 34- 35)، تحقيق: أحمد زكي باشا، طبعة: دار الكتب المصرية- القاهرة، الطبعة الرابعة 2000م؛ والأبيات من مشطور الرجز.

(8) هو رجل من بني مِلْكان لم يُصَرَّح باسمه، والبيتان من الطويل.

(9) التنوفة: هي الأرض القفر. «المحكم والمحيط الأعظم» لابن سيده (9/ 500)، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، طبعة: دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى 1421هـ- 2000م.

(10) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 81)، تحقيق: مصطفى السقا- وإبراهيم الإبياري- وعبد الحفيظ الشلبي، طبعة: شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1375هـ- 1955م.

لم أقف على تاريخ وفاته.

(11) العتائر: جمع عتيرة؛ وهي أول ما ينتج من الشاة ونحوها، وكانوا يذبحونه لآلهتهم. «المحكم والمحيط الأعظم» لابن سيده (2/ 43).

(12) مهطعين؛ أي: ناظرين بخضوع. المصدر السابق (1/ 119)، وهي منصوبة على الحال.

(13) انظر «الأصنام» للكلبي (ص 41- 42)، والبيتان من الكامل.

(14) لم أقف على تاريخ وفاته.

(15) انظر «الأصنام» للكلبي (ص 39- 40)، والأبيات من الطويل.


عدد القراء: 1650

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-