البهاء زهير: حياته وشعرهالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-05-31 16:30:37

سعد عبدالله الغريبي

أديب وشاعر - الرياض

مدخل:

من المتداول على ألسن الناس بمن فيهم المؤرخون أن فترة ما بين القرنين الهجريين السادس والسابع هي فترة انحطاط، ويعممون هذا الوصف على نواحي الحياة كافة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية. وهذا غير صحيح؛ وبخاصة فيما يتعلق بالحالة الفكرية. فهذه الفترة الزمنية أنتجت عددًا لا يستهان به من أهل الفكر والأدب من علماء وأدباء وشعراء. فمن أهم علماء تلك الفترة ابن خلكان والقاضي الفاضل وعماد الدين الأصفهاني وضياء الدين بن الأثير، ومن الشعراء ابن سناء الملك وابن النبيه وابن الفارض وجمال الدين بن مطروح.

اسمه ولقبه وكنيته:

أبو الفضل زهير بن محمد بن علي المهلبي العتكي الأزدي. ينتمي إلى المهلب بن أبي صفرة. و(العَتَكي) نسبة إلى (العَتيك) بطن من قبيلة الأزد. و(الأزدي) نسبة إلى قبيلته اليمنية، كما يلقب بالمكي بالنظر إلى ولادته، و(القوصي) بسبب معيشته في (قوص) بصعيد مصر. ويلقب بهاء الدين الكاتب ويكنى أبا الفضل وأبا العلاء.

مولده ونشأته:

ينقل ابن خلكان عن بهاء الدين أنه أخبره بأن مولده في خامس ذي الحجة سنة 581هـ بمكة وأخبره مرة أخرى أنه ولد بوادي نخلة ولعله هنا أراد تحديد المكان بدقة. وهذا التاريخ الهجري يوافق السابع والعشرين من فبراير سنة 1186. قضى طفولته وشطرًا من صباه في الحجاز، ثم انتقل إلى (قوص) شابًا. وكانت نشأته في مكة سببًا في اكتسابه جزالة اللفظ وفصاحة اللسان، أما الرقة والعذوبة والروح المرحة فقد اكتسبها من عيشته بمصر. ويرى محمد إبراهيم جدع أنه شاعر حجازي إذ عنون كتابه بـ (البهاء زهير شاعر حجازي)، وحاول إثبات ذلك في كل صفحات الكتاب. ويرى غيره أنه شاعر مصري. يقول مصطفى عبدالرازق؛ بعد أن أورد نماذج مما قاله في مصر: «ومن كان هذا هتافه بحب مصر فهو مصري وإن كان مسقط رأسه الحجاز».

أسرته:

لم تورد المصادر شيئًا عن أسرته، لكن شاعرنا أشار إلى نسوة وأطفال له في قصيدة يستعطف فيها الناصر يوسف ملك دمشق، وفيها يقول:

ولكنّ أطــفالا صــغارا ونسوة     ولا أحــدٌ غيري بهــــم يتلَطّـــف

كما ذكر (بَالمَر) أن مرثيته التي مطلعها:

نهاك من الغواية ما نهاكا     وذقتَ من الصبابة ما كفاكا

قالها في رثاء ابنه.

ويشير مصطفى عبدالرازق إلى أبيه بقوله: «ولم يحدثنا أحد ممن ترجموا للبهاء زهير عن سيرة أبيه، غير أنا وجدنا في نسخة خطية قديمة بدار الكتب المصرية لديوان شعر البهاء زهير رقم 2051 أدب وصْفَ أبيه بالعارف محمد قدس الله روحه، ويُنْعت بذلك في العادة أهل الصلاح والتقوى».

صفاته:

يقول عنه ابن خلكان: «اجتمعتُ به ورأيته فوق ما سمعت عنه من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السجايا، وكان متمكنًا من صاحبه كبير القدر عنده، لا يطلع على سره الخفي غيره، ومع هذا كله فإنه كان لا يتوسط عنده إلا بالخير، ونفع خلقا كثيرًا بحسن وساطته وجميل سفارته».

ومن شعره نستدل على بعض صفاته، منها أنه ذو همة عالية؛ وإن كان فقيرًا:

واقنع بكسرة خبز    وهمة كسروية

ولا يرضى بالمهانة:

استغنِ عن زيد وعن عمرو وعن     فارق بلادًا أنت فيها ممتهن

وهو صادق حيي:

إذا قلتُ قولا كنتُ للقول فاعلا       وكان حيائي كافلي وضميني

ولعل وفاته فقيرًا بعد حياته الوظيفية الطويلة دليل نزاهته، كما أنها دليل كرمه؛ بل وإسرافه. كما يقول:

لي منزل إن زرتَه     لم تلق إلا كَرَمَكْ

وإن تسل عمن به     لم تلق إلا خدمكْ

وهو قريب من ربه، ففي كثير من قصائده التي قالها بعد أن شاب وذكر فيها نزوات الصبا يختمها بالاعتراف بالذنب ورجاء عفو ربه، كما في قوله:

رجوت كريما قد وثقت بصنعه    

                      وما كان من يرجو الكريم يخيب

فيــا من يحب العفــو إنيَ مذنب    

                     ولا عفــــو  إلا  أن  تكـــون  ذنـــــوب  

وفاته:

توفي يوم الأحد الرابع من ذي القعدة سنة 656هـ (2 نوفمبر 1258) بوباء حدث في مصر، ودفن في القرافة الصغرى، بالقرب من قبة الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في جهتها القبلية.

الحياة الاجتماعية في عصر البهاء:

اتبع الحكام الأيوبيون سيرة أسلافهم العباسيين في إقطاع الأمراء والقادة العسكريين الأراضي التي يعود مردودها لهم، مما ساعد على انقسام المجتمع إلى طبقتين؛ طبقة الأثرياء وأصحاب المهن والتجار، وطبقة عامة الشعب من الفقراء والمستخدمين وأصحاب المهن الحقيرة. وفي وسط هذين القسمين كانت فئة الأدباء تحاول أن تشق طريقها لعلها تؤمن حياة لائقة بها. لكن التغلب على الفرنجة في الحروب الصليبية كان شغل الأيوبيين الشاغل، ولذا لم يلتفتوا للشعراء الذين ساندوهم بأشعارهم ودبجوا القصائد في مديحهم، ولم يلاقوا عندهم ما لاقاه غيرهم في العصور المتقدمة. ومع ذلك ظل بعض الأدباء - وحتى العلماء ورجال الدين - يتملقون الحكام ليحصلوا على مرتب شهري أو وظيفة.

كما ظهرت البدع والخرافات وشعوذات الصوفيين التي شجعها الحكام لصرف العامة عن تتبع أعمالهم ومحاسبتهم على ما يفعلون، فبنوا الخوانق والربط، وأجروا على الصوفية الرزق السهل اللين. كما ظهر التنجيم نتيجة لقلق الناس على حياتهم.

ولم يتخذ الأيوبيون مظاهر الخلفاء الفاطميين ورسوم تقاليدهم وأبهتهم وتحجبهم عن الناس. لكن كانت هناك مناسبات تقام فيها الاحتفالات مثل معاهدات المسلمين والنصارى، وتلقي الخلع من الخليفة العباسي، واحتفالات النصر والنوروز القبطي وعاشوراء وترائي هلال رمضان. أي أن الحياة كانت تسير بين هدى ومجون، وطاعات ومعاص.

الحياة الثقافية:

نشطت الحياة الثقافية في عهد الدولة الأيوبية والعصر المملوكي، وأحب ملوك بني أيوب العلم واحتفوا بالعلماء فجالسوهم وسمعوا منهم، ولم يقتصروا في هذا على علماء الشريعة واللغة؛ بل تعدوهم إلى الرياضة والحكمة والهندسة. وكانت المساجد والخوانق والرباطات والزوايا معاهدَ دينية إسلامية للرجال والنساء، كما كانت مأوى المنقطعين للعلم والزهادة والعبادة الواردين من البلاد الشاسعة".

وتسابق في إنشاء المدارس الملوك والأمراء والوزراء ومستخدمو الدولة والأغنياء والمدرسون، كما ساهمت سيدات الأسرة الأيوبية مساهمة مثمرة في تشييد المدارس والوقف عليها، وامتلأت دور الكتب العامة والخاصة بالمجلدات.

أما الفقهاء والمتصوفة وشيوخ الإسلام فقد كانوا من الدولة في مكان القيادة والريادة. جلسوا إلى دار العدل للقضاء نيابة عن السلطان، ودافعوا عن حقوق الشعب".

ثقافة البهاء:

كانت مدينة قوص حين انتقل إليها البهاء مركزًا ثقافيًا مهمًا لا يقل عن دمشق وحلب والقاهرة والإسكندرية، تنتشر فيها المدارس، وتعج بالعلماء، وتمتلئ بالمكتبات وتكثر فيها الأربطة.

وفي وسط هذا المناخ الثقافي والعلمي استكمل البهاء دراسته، وتخرج في مدارس قوص، واختلط بأعيانها وأدبائها. ويظهر أثر ثقافة البهاء في أشعاره من خلال تضمينات واقتباسات من القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه وأصوله وعلم الكلام والفلسفة والنحو والأمثال.

فمن الاقتباس من القرآن الكريم قوله:

هذه قصتي وهذا حديثي     

                       ولك الأمر فاقض ما أنت قاضي

ومن تضمين الشعر قوله مضمنًا شطر بيت المتنبي:

   وقفت على ما جاءني من كتابكم    

              (وقوفَ شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه)

ومن تعبيراته الفقهية:

يا من ولائي فيه نصٌّ بيِّنٌ     

                          والنص عند القوم لن يتأولا

ومن علم الكلام:

هذا هو الأدب الذي أنشأتُه    

                              فاهتز منه روضَه المطلول

عطلتُه لما رأيتك معرضا    

                       عنه وما من مذهبي التعطيل

ومن تضمين الأمثال:

تعالوا نُخَلِّ العتب عنا ونصطلح

                    وعودوا بنا للوصل (والعود أحمد)

ومن تعبيراته النحوية:

عسى عطفة للوصل يا واو صدغه

                         وحقك إني أعرف الواو تعطفُ

وإن خالف اللغويين باستخدام الألفاظ العامية فإنه يخالفهم عامدا، كما في قوله:

بروحي من أسميها بِسِتِّي     

                          فتنظر لي النحاة بعين مقت

يرون بأنني قد قلت لحنا  

                          وكيــف وإننـي زهــيـر  وقـتي

ولكن غادة ملكــت جهاتي

                            فـلا لحن إذا مــا قـلت ستي

سيرته الوظيفية:

بدأ البهاء حياته العملية في مدينة قوص كاتبًا في ديوان حاكمها مجد الدين إسماعيل بن اللمطي، لمدة يصعب تحديدها لأننا لا ندري متى بدأ الخدمة عنده ولا متى تركها. ولا نستطيع أن نحكم على ذلك من خلال القصائد العشر التي نظمها فيه مدحًا أو تهنئة أو عتابًا، فقد كانت أولاها عام 607هـ بمناسبة تعيينه واليا لقوص وآخرها سنة 629هـ لأن البهاء ظلّ وفيًّا مع اللمطي حتى بعد تركه خدمته بوقت طويل وانتقاله إلى بلاط ملوك الأيوبيين وأمرائهم.

فقد اتصل بالملك العادل في وقت مبكر، وأنشأ قصيدة في مديحه أنشدها بين يديه في قلعة دمشق سنة 612هـ؛ وفيها ما يشير إلى أنه قد وجد الطمأنينة عنده، غير أن هذا لا يعني أنه التحق بخدمته. يقول:

أمنتُ بلقياك الزمان وصرفه     

                    فغيري من يُخشى عليه اهتضامُه

وتتالت بعد ذلك قصائده في ملوك بني أيوب وأمرائهم.

يقال إنه حدثت بينه وحاكم قوص جفوة فأقاله، ومن ثم اتصل بالوزير صفي الدين ابن شكر الذي كانت له منزلته العظمى في التاريخ السياسي من دولة الأيوبيين، وكان وزيرًا للملك العادل ثم لابنه الكامل. وغير بعيد أن يكون هو واسطته للعمل لدى الأيوبيين. إننا إذا تأملنا قصيدته في صفي الدين نجد فيها حديثًا عن طباع الناس من تكلف للود، وتملق مع استعداد للغدر، ثم شكوى من حرفة الأدب التي أدركته فأفقرته، ثم التماسًا لنظرة حانية منه، وكأنه يشير لما وصلت إليه حاله مع اللمطي. يقول:

وممــــا دهـــاني حرفـــة أدبيــــة    

                     غدت دون إدراك المطالب خندقا

وإن شــملتني نظــــرة صــاحبية

                     فلستُ أُرى يومًا من الدهر مملقا

وتشير بعض قصائده في اللمطي إلى خلاف بينهما كان هو سبب تركه إياه، حتى إن أظهر عكس ذلك كما في قوله:

مولاي لم أهجر جنابك عن قلى      

                    حاشاي من هذا الحديث المفترى

وكفرت بالرحمن إن كنت امرءا    

                     أرضــى  لمــا  أوليتــه أن  يكــفـرا 

سطع نجم البهاء في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي طلبه بنفسه، وكان معه في حربه وسلمه. وقد أثبت البهاء جدارته، فقد حفظ له التاريخ موقفًا هو الغاية في النبل والوفاء والتضحية، فحين توجه الملك الصالح لمصر ليستعيدها من أخيه الأصغر العادل - في سنة 637هـ - خدعه ابن عمه الناصر داود وقبض عليه في نابلس وأودعه السجن في الكرك، ففرّ مَنْ معه حتى لم يبق منهم إلا أقل من المائة كان من بينهم البهاء. وأٌطلق سراح الصالح بعد أشهر ووصل إلى مصر وتسلم حكمها، وحظي البهاء عنده بأعلى منزلة، فوَلاّه ديوان الإنشاء، وبقي في خدمته حتى سنة 647هـ وهي السنة التي توفي فيها الملك. وأجمع المؤرخون - ما عدا ابن تغري بردي - على أن الملك الصالح صرفه من خدمته قبل وفاته لأمر ما.

كانت وفاة الملك الصالح إيذانا بسقوط دولة الأيوبيين في مصر، فاتجه إلى الفرع الشامي منها الذي ما زال باقيًا، وكان ذلك سنة 648هـ وقد بلغ السابعة والستين، فراح يمدح الناصر يوسف بعد أن تولى مُلك دمشق، ويعرض عليه بضاعته، ويطلب مقابل ذلك قربه وأنسه:

وجُدْ ليَ بالقرب الذي قد عهدته    

                      وأرضى ببعض منه إن كنت أصلح 

ولما لم يفلح في مقصوده نظم قصيدة أخرى خفض فيها سقف مطالبه إلى أدنى حد، فأخذ يشكو ما يلقاه من البؤس والفاقة هو وأطفاله ونسوته، ويأمل من ممدوحه أن يلقى منه ما يعينه على نوائب الدهر.. يقول من هذه القصيدة:

ونفســي بحمـــد اللـــــه نفــس أبيـة

                      فها  هـــي  لا  تهـفــو  ولا تتلهـــف

ولولا أمـــور ليــس يحـسُــنُ ذكـرهـا

                      لكنتُ عن  الشكوى  أصدّ  وأصدفُ

ولكــنّ  أطـــفـالاً  صـــغـارًا  ونـســـوة

                      ولا  أحــدٌ  غيــري  بهــــم يتلَطّـــف

ومع ذلك لم يرقّ له قلب يوسف، فعاد إلى مصر واتجه في محاولة أخيرة إلى الملك المنصور نور الدين ومدحه، وكان ذلك سنة 655هـ أي قبل وفاته بعام واحد، ومنها:

لعل الذي في أول العمر فاتني

                           تعوِّضُنيه أنتَ في آخر العمر

ولم يتحقق له ما كان يأمل، فلزم بيته وظل على بؤسه إلى أن مات فقيرًا، بعد أن قضى عمره في خدمة الملوك.

ولعل من أسباب فقده ماله أنه كان مبذرا كما يقول:

وصاحب أصبح لي  لائما      

                      لمــا  رأى  حـالــة  إفـلاسـي

قلت له إنــي امرؤ لم أزل

                      أفني على الأكياس أكياسي

أغراض شعره:

للشعر عند البهاء وظائف متعددة، وأغراض ذكرها في إحدى قصائده.. يقول:

يُغنـِّـي به الندمــان  وهــو  فكــاهة

                   ويــــورده  الصـوفي  وهـو  رقـائــق

به تنقضي حاجات من هو طالب

                   ويستعطف الأحباب من هو عاشق

وهو لا يعد الاستجداء من أغراض الشعر. يقول:

وما قلت أشعاري لأبغي بها الندى

                         ولكنني في حلية الفضل واثق

أأطلـب رزق الله  مــن  عند  غيــره

                         وأســترزق  الأقــوام  والله رازق

لكن قصائد ديوانه تقول غير هذا، فها هو يعلن أن الملوك باب واسع للرزق:

حتى وصلت سرادق الملك الذي     تقف الملوك ببابه تسترزق

1 -المديح:

للبهاء قصائد جميلة في مديح ملوك الدولة الأيوبية وأمرائها وأعيانها، وهو مديح تقليدي يبدؤه عادة بالغزل؛ الذي يَعُدّ الابتداء به كالنافلة قبل المكتوبة، كما في قوله:

مهّدتُ بالغزل الرقيق لمدحه

                           وأردتُ قبل الفرض أن أتنفلا

وهي القصيدة التي مدح بها الملك الناصر صلاح الدين يوسف:

عــرف  الحبيــب  مكانـــه  فتدلــلا

                           وقنعت منــه بموعــد فتعللا

وأتى الرسول فلم أجد في وجهه

                           بشرا  كما قد كنت أعهد أولا

فقطعــت  يومــــي  كلــه  متفكـــرا

                           وســهرت ليلـي كلــه متململا

ثم ينتقل انتقالاً لطيفًا:

أهوى التذلل في الغرام  وإنما

                           يأبى صلاح الدين  أن  أتـذللا

يا من مديحي فيه صدق كلــه

                           فكأنــما  أتلــو  كتـابــا  مـنـزلا

يا مــن  ولائي  فيه  نــص  بين

                           والنص عند القوم لـن يتأولا

ومن أشهر مدائحه رائيته في السلطان الكامل، التي يذكر فيها انتزاعه ثغر دمياط من الإفرنج. يقول مطلعها:

بك اهتز عطف الدين في حلل النصر

                           ورُدَّتْ على أعقابها ملة الكفر

ثم يأتي على وصف المعركة:

وليلــــة نفــــــر  للعــــدو ..  كأنـــها

                          بكثــرة من أرديتَــه ليلةُ النحر

ويــا ليلــة قــد شــرف اللــه قـدرها

                           ولا غرو إن سميتُها ليلة القدر

ثم يشيد بمكانة دمياط:

كفى الله دمياط المكاره إنها

                   لمن قبلة الإسلام في موضع النحر

وما طاب ماء  النيل إلا  لأنه

                   يحــل  محل الريــق من ذلك الثغــر

ولعل عظم هذا اليوم جعله يتجاوز الحد في المبالغة حتى قال:

لقد فاق أيام الزمان بأسرها

                     وأنسى حديثا عن حنينَ وعن بدرِ

2 -الفخر:

لا يكاد ينفصل عن مديحه الفخرُ بنفسه وبشعره خاصة، فهاهو ينهي إحدى مدائحه مدعيًا أنها أفضل من مدائح زهير بن أبي سلمى وحسان بن ثابت:

هذا زهيـرك لا زهيــر مزينة

                         وافاك..  لا  هــــرما  على علاته

دعْــــهُ  وحولياته، ثــم  اســـتمع

                         لزهير  عصرك  حسن  ليليّاته

لو أُنشِدتْ في آل جفنة أضربوا

                         عن ذكر  حسّانٍ  وعن  جفناته

وفي مجال الحب يفخر بأنه معلم الحب. يقول في قصيدة (إمام المحبين) يقول:

أنا في الحب صاحب المعجزات

                             جئــت  للعاشقين  بالآيــات

  كــان أهــل الغــرام قبلـــيَ أُمِّيِّــــ

                         ـــــــــــين  حتــى  تلقنــوا  كلماتي

فأنا اليوم صاحب الوقـت حقا

                         والمحبـون  شيـعتي  ودعــــاتي

3 -الغزل: 

هو ميدانه بلا منازع، مع أن معظم موضوعات غزله موضوعات تقليدية؛ كذكر الفراق والوداع والرسول والعذول والرقيب. يقول في مطل الحبيب ونكث العهود:

يعاهــدني لا خاننـي  ثم  ينكــثُ

                    وأحــلـف  لا  كلمـتـــه  ثــم  أحـنَـــثُ

وذلــك  دأبــي  لا  يــزال  ودأبـــــه

                     فيا معشر الناس اسمعوا وتحدثوا

أقول له: صلني. يقول: نعم غدا

                       ويكســر جفــنا هازئا بي ويعبــث

ومن أجمل ما قال في الوداع قوله:

ولـما رأت أن الــفـراق حـقـيـقــةٌ    

                وأنــي   علـيه   مـكـــرهٌ   غـيـر   طـائـع

تبـدَّتْ فـلا والله ما الشـمـس مثلهـا

                 إذا  أشــرقـت  أنوارهـا  فـي  المطالــع

تـســـلم  بالـيـمنــى  عـلــي  إشـــــــــــارةً   

                وتمســح  باليســرى  مجـاري المدامـع

ولم يكن لشاعرنا موقف محدد من المرأة، فهو يتردد تارة بين البيضاء، لأنها كالحق:

      يا مغرمًا بالســمر ما

                       أنــا فيهــم لــــك متبــع

      الحــق  أبيــض  أبلــج  

                      والحــق أولــى مــا اتبــع

وتارة ينفر من البياض لأنه لون البهق:

الشمس في لون اللمى

                      والبيض في لون البهق

وتارة يريد المرأة طويلة:

وقد عابها الواشــي فقال طويلة

                      مقــال  حســود  مظـهـر  لعنــاد

فقلت له:  بشــرت  بالخير إنــها

                       حياتي  فإن  طالت فذاك مرادي

وتارة يريدها معتدلة القوام:

وما طالت وما قصـرت ولكن      

                      مــكـمـــلـة  يضــــيق  بـها  الإزار

قــوام  بيــن  ذلــــــك  باعــتـــــدال

                      فلا  طول  يعاب  ولا  اخــتـصـــار

وهو لا يمانع من القصيرة في ملاحة:

ومـــا  ضرهـــا  ألأ  تكون  طويلةً

                      إذا كان فيها كل ما يطلب  الإلف

ولا مانع عنده أن تكون عمياء:

قالوا: تعشقتَها عمياء قلت لهم:

                   ما شـانها ذاك فــي عيني ولا قدحا

بـل  زاد  وجـــديَ  فـيـهـا  أنها  أبدا

                    لا تبصر الشيب في فوديّ إذ وضحا

وباختصار فهو مشغوف بكل مليحة مهما كانت أوصافها:

وإني لمشــغوف بكــل مليحة

                   ويعجبني الخصر المخصّر والردف

4 - الوصف:

كتب بعض من ألف عنه أنه وصف مصر ونيلها ومراكبه، كما وصف تراب مصر وحصباءها. والمتتبع لديوانه يجد أن معظم ما كتب عن مصر إنما هو حنين وتشوق وليس وصفًا لها، أما الوصف فليس سوى لمحات يسيرة، كقوله:

حبــــذا  الــنيــــل  والمراكــــــب  فــيــــه

                            مصــعدات  بــنا..  ومنـحـــدرات

هات  زدني  من الحديــث عــن النيـــ

                        ــــل ودعنــي مــن دجلــة وفــرات

بين  روض  حكى  ظهـور  الطواويــــــ

                         ــــس وجــو حكــى بطــون البزاة

حيــث مجرى الخليج كالحية الرقــــ

                          ـطاء بيــــــن الريــــاض والجنــات

غير أنه أكثر من وصف الطبيعة والسحاب والمطر والبساتين، كقوله يصف بستانًا له:

للــــه  بـــســــتـانــي  ومــــــــــا      

                        قـضــيــت  فيه  مـن  المآربْ

 لهفي   على  زمـــني  بــــه        

                        والعيش  مخضر  الجــوانب

ولكـــم  بكــرت  لــــه  وقـــد      

                        بكرت  لـه  أيدي  الســحائب

فيروقــني  والجــو  منـــــــــــ

                        ـــــه ســاكن والقطــر سـاكب

والــطــــل  في  أغــصــانــــــه     

                        يحـكـي  عـقـــودا  في  ترائــب

وبــــــدا  على  دوحــــــاتــــــــه     

                        ثـــمـــر  كأذيـــــــال  الـثـعــــالب

وكأنـــــــمــــــا  آصـــــــــالــــــــــــه    

                          ذهــب  على  الأوراق  ذائــــب

وله باع طويل في وصف الخمرة ومجالس اللهو وما يحيط بها من طبيعة وندماء، وما يقدم فيها من طعام وشراب وسقاة وطهاة ولحن وغناء.. يقول واصفًا مجلس لهو:

      يومـــنا  يـــوم  مطـــير   

                         ولـــنـــــا  كأس  تـــــدور

      أخـــذت  مــنا  عــقــــار   

                         أخــذت  منها  الدهـــور

      لــطـفـت  بالدن  حتى    

                         قــيــل  ســـــر  وضــمــير

      وندامى  بهــم  العيــــــ

                         ــش  كما  قيل  قصــير

      وسقاة  مثل  ما تهـــــ

                         ـــــوى  شمـوس  وبـدور

      ومـغـنٍّ  هــــــو  فـيـمـــا      

                         يحســب  الناس  أمـير

      وإذا  غنى  تموج  الــــ

                         أرض  مــنـــــه  وتمـــــــور

      ولــنــا  طــــــاهٍ  نظـــيفٌ       

                         وظــــــريـــــف  وخــبـيــــر

      وقـــدور  هدرت  فهــــــ

                         ـــــي  على  الجمر تفور

5 - الرثاء:

على كثرة ما مدح من الأمراء والملوك لم يرثِ واحدًا منهم. بل إنه لم يرثِ أقرب أصدقائه إليه؛ وهو ابن مطروح. فلعله يؤمن بأن الرثاء لا يجدي ولا يرد غائبًا. استمع إلى فلسفته في الموت:

وما الناس إلا راحل بعد  راحل     

                   إلى العالم الباقي من العالم الفاني

وإلا فأين النــاس من عهــد آدم

                   ومن  عهــد  نوح  بعده  وإلى الآن؟

ورثاء البهاء فيه رقة غير معهودة:

أبكـيـــك  بالشــعر  الـــذي       

                    قد  رقَّ  حتى  صـــار  دمعا

وله معنى يكرره في معظم مراثيه، وهو استنكار بقائه بعد المرثي، ويرمي نفسه لذلك بالغدر. يقول من مرثيته في ابنه:

ومــــــــالــي  أدّعـــي  أنــي  وفي؟!

                         ولست  مشاركا  لك في  بلاكا

تموتُ  وما  أموتُ عليك  حزنا

                            وحق هواك خنتك في هواكا

6 - الهجاء:

لم يهجُ أحدًا، حتى الذين لم يحققوا له رغبة أو طلبًا، وكل هجائه لنماذج من المجتمع يأتي على رأسها الثقلاء، كما في قوله:

يـا  ثقيــلا  ليَ  من  رؤ   

                  يتــــــه   هــــمّ   طــــويـــلْ

وبغيضا هو في الحلــ

                     ـــــق شـجًى ليس  يزول

7 - السخرية:

له مقطوعات وأبيات ساخرة كهذا البيت:

رأيتك  قد عبرتَ ولم تُسلِّم

                  كأنك  قد  عبرت على خَرابَهْ

وقوله في أحمق:

وأحمــق ذي لحية     كبيــرة منتشـــرة

طلبت فيها وجهه      بشـــدة فلــم أره

تبًّــا لها من لحيــة     كبيــرة محتــقـرة

8 - الألغاز:

وله في الألغاز حظ وافر، ومن ذلك قوله ملغزًا في مدينة (يافا):

بعيشك خبرني عن اسم مدينة

                           يكــون  رباعيا  إذا  مــا كتبـته

على أنه حــرفان حين تقــوله

                          ومعناه حرف واحـد إن قلبته

9 - الحكمة:

له أبيات في الحكمة نادرة كقوله:

ومن سمع الغناء بغير قلب

                          ولم يطــرب فلا يلــم المغني

وقوله:

ورب مال نما من بعد مرزئة

                      أما ترى الشمع بعد القَطِّ ملتهبا؟!

أسلوبه في الشعر:

حوَّل اللغة اليومية لغةً للشعر، ولم يعتمد البحور التقليدية واللغة الرصينة إلا في المدح والرثاء، أما ما عدا ذلك فكانت بحوره راقصة، ولغته رقراقة.. ومن أمثلة شعره الرقيق وأوزانه الخفيفة قوله يصف يوما من أيام اللهو على النيل(73):

     حبذا دور على النيـــــل وكاسـات  تـدور

     ومسرات تموج الـ     أرض مـنـهـا وتمور

     وقصــور ما لعيش    نلتــه فيــها قصــور

ومن شعره الخفيف قوله:

    يــا قـــضــيبا  مــن  لجــين   

                            يـــا ملــيــــح المقلتيــنِ

     كل  مـا  يرضيك  عندي  

                            فـعـلى رأسـي  وعـيني

     مــا  لـقـلبـي منــك يا بـد

                            ر  سـوى خـفـي حنين

     ويــرى   الحــــســـــاد  أنـي

                            منــك  مـــلآن  اليدين

بل إنه ليخرج عن أوزان العربية إلى أوزان لم يعرفها الخليل كالدوبيت الفارسي؛ الذي منه قوله:

    يــا مَنْ  لعِبت  به  شـــمولٌ   

                            مــا  ألطــف  هذه  الشمائلْ

    نـــشـــــوان  يـــهــــــــــــــزّه  دلالٌ    

                            كالغصــن مع النسيم مائل

  

  لا   يمـكنه   الكـلام   لكـن   

                            قد  حمّل من طرفه  رسائل

     مــــا  أطيــب  وقتــنا  وأهـنا    

                            والــعـــاذل  غـــائب  وغافــل

وقد شغف بالبديع؛ من جناس وطباق وتورية وتضمين واقتباس، ويعدُّه مما يزين قصائده:

أحب البديع الحسن معنى وصورة

                            وشعري في ذاك البديع بديع

ويعد الجناس مما يحسن القريض:

وإن بدأ النعمى تلاها بمثلها

                        فتزداد حسنا كالقريض مجنّسا

ومن جناسه اللطيف قوله:

     أشـــكو   وأشــكــر   فعله

                       فأعجب لشاك منه شاكرْ

وله كنايات لطيفة وخفية. منها قوله في جاهل ثقيل:

    فهو    إذا   رآه   الرائي

                       أبو معاذ أو أخو الخنساء

وقوله:

هو الركب لا ركب النميري سالفا

                        ولا الركب ما بين النقا والأناعم

ولا يمكن لدارس شعر البهاء أن يتجاوز شعره الطريف الذي تشع منه روحه المرحة وتظهر فيه الأمثال والمفردات المصرية، وتهبط لغته إلى لغة الشارع، لكن عليه أن يعرف المقام الذي قيلت فيه ولمن وجهت.. كقوله يدعو صديقا له:

مـــائــــدة مــنـوعـــــــــة           وقـهـوة   مشعشعة

وســـــادة تراضــعـــــوا             كأس  الـوداد  مترعة

ولا  يزيــــــدون  على               ثــلاثـــة  أو   أربــعـة

فاليوم  يوم لم يزل                   يــوم  ســكون  ودعة

فيا  أخي كن عندنـا                  بعــد صــلاة الجمعة

ولنقرأ موازنته بين (اليك) و(الشيش) أي الواحد والستة في مصطلحات النرد:

فاليَكُّ في النرد وهو محتقر

                          خير من الشيش عند حاجته

والمصريون يضربون المثل بـ (الفاتحة)؛ لما يحفظ بتمَكُّن، فيقول:

وغادة  بوصلها  مسامحه

                     تحفظ ودي مثل حفظ الفاتحة

وله أبيات يبتر نهايتها طلبا للظرف واعتمادًا على فهم المستمع كقوله:

ما مثل شوقي شوق      حتى  أقول  كأنـه

وإنـــــــــــه لشـــــــــديـــــــد           كما  علمت  وإنه

ديوانه:

يذكر المستشرق (إدوارد هنري بالمر) أن الذي جمع ديوانه بعد وفاته شرف الدين - المعروف بالحلاوي الموصلي - وقد ذكر ابن خلكان في ترجمته للبهاء لقاءهما (البهاء وشرف الدين) بالموصل.

وقد اعتمد بالمر في تحقيقه للديوان سنة 1875على نسخة يعود تاريخها إلى سنة 1278هـ (1861) لكنها كثيرة الأخطاء، مما اضطره لتصحيحها على نسختين محفوظتين بمكتبة أكسفورد؛ إحداهما قديمة جدا؛ يظن أنها من زمن المؤلف، والأخرى مكتوبة سنة 1030هـ (1630) وهي رواية شرف الدين..

وكانت طبعة بالمر هذه من ضمن خمس نسخ اعتمد عليها محمد طاهر الجبلاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم في تحقيقهما المشترك للديوان، ومع ذلك لم تسلم نسختهما من الأخطاء التي لم تكن موجودة في تحقيق بالمر.

أسلوبه في الكتابة:

عين البهاء رئيسًا لديوان الإنشاء، وهي وظيفة سبق أن حلها القاضي الفاضل وأسس له مذهبًا في الكتابة النثرية، فلما جاء البهاء خرج على هذا المذهب، وابتدع نمطًا جديدًا في الخطابات، فاقتصد في زينة اللفظ، ومال إلى الوضوح والبساطة، وتخفف من كثرة المجاز، مراعيا القواعد العربية.

***


عدد القراء: 2439

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-