القصيمي يكتب سِفْر الخروجالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 22:12:48

ضِيَاف البَرّاق

شاعر وكاتب يمني

في قرية صغيرة بمنطقة القصيم في نجد بالسعودية كانت ولادة الكاتب عبدالله القصيمي عام 1907م على وجه التقريب، وعاش حياة مثيرة للجدل إلى أن تُوفِّيَ سنة 1996م من مرضٍ عُضال. 

كاتب ومفكر نقدي، بل ومجادل صدامي لأبعد مدى، نقد كل ما هو عربي وإسلامي، بأسلوب شديد الجرأة، وخاض معارك فكرية شرسة مع خصومه المفكرين منذ بداية مشواره الأدبي والفكري إلى النهاية.

وقد ساهمت ظروف خارجية وذاتية في تشكيل فكر القصيمي المتقلب من طور إلى طور والصاعد من مستوى إلى مستوى، ولا بد من معرفة تلك الظروف لمعرفة حقيقة القصيمي وفهم تصوراته العقلية وأفكاره ومواقفه. وكان القصيمي ينفعل بالظروف المحيطة به ويتفاعل مع المشكلات العربية التي عاصرها ويعبّر عن مواقفه منها على طريقته الخاصة.

ويُعَدُّ القصيمي فارس الكتابةِ غير الحَذِرة، على النطاق العربي بالتحديد، خلال الحقبة الزمنية التي عاش فيها. وكان القصيمي منذ إصدار كتابه (هذي هي الأغلال) عام 1946، يهدف إلى تحرير العقل العربي حتى يصبح هذا العقل قادرًا على الانبعاث والابتكار والإسهام في بناء حضارة الإنسان، والمشاركة فيها إلى جانب الأمم المتقدمة.

ربما قد نستفيد من فكره النقدي وإنتاجه الفكري إذا قرأنا أعماله بعقول منفتحة، وصدور متسامحة، وبتعمق. والواضح أن هذا ‏الكاتب النقدي كان ذا أسلوب أدبي آسِر، لكن بلاغته لا تخلو من شحنات هجائية، ومرارة نفسية، وتشاؤم، وتطرُّف، وغالبًا تجاوزات تقفز على المنطق. بالطبع، أسلوب الكاتب يعكس شخصيته أو يجسّد حقيقتها، خصوصًا إذا كان أسلوبه أصيلًا نابعًا من أعماق شخصيته. ومن هنا يكون في الإمكان أن نتعرف على شخصية الكاتب، أي كاتب، من خلال دراسة أسلوبه. ويُؤخذ على أسلوب القصيمي بأنه هجوميّ، قاسٍ، ولا يخلو من التكرار والإطناب. والغلو إحدى صفات هذا القصيمي. ولكن هذه الصفة تنطبق على غالبية أدباء ومفكري وفلاسفة القرن العشرين، لأنه قرن الأفكار القومية والماركسية والصراعات الإيديولوجية والفلسفات المتحررة من القيود.

لا بأس أن نسأل هنا: لماذا تتكرر كلمة العبقرية ومشتقاتها في جميع أو معظم كتابات القصيمي؟ هل كان مهووسًا بكل ما هو عبقري؟ أم كان هو عبقريًا بالفعل؟ ولكن يمكننا القول إن في حياته وفلسفته جنونًا فلسفيًا تفوح منه رائحةُ عبقرية، لكنها عبقرية شاطحة أكثر من اللزوم، في أغلب حالاتها. وارتبطت مسيرته بالشجاعة القصوى إلى درجة دفعته للقول بأن "الشجاعة هي أن نفعل الخطر ولو كان دخول النار، والفضيلة هي أن نكون شجعانًا ولو في تحدي العقاب".

تمرُّده على ثقافته السلفية شكلّ نقطة التحول الأولى في مسيرته الحياتية والفكرية، وأصبح يرى أنه لا يمكن إحداث وتحقيق نهضة فكرية في مجتمع لا يؤمن بقيمة التفكير، ولا حتى يتسامح مع الفكر الحر. ومن هذا الباب أو المنطلق، نقد الفكر العربي، وهدفه من ذلك هو تكسير تلك الجدران المانعة للتفكير المغاير، والتي هي سبب تخلفنا العربي، ولكن محاولاته تلك لاقت الكثير من الاتهامات وردود الأفعال القاسية، فأصابه هذا بخيبات أمل عديدة، وكل خيبة كانت تدفعه إلى الكتابة بشكل أقسى من ذي قبل، وكثيرًا ما كان يستميت فكريًا ضد ذلك الواقع الذي عايشه ورآه متخلفًا ورديئًا، وكان يغضب ويحترق كالنار من أجل تغييره.

مع مرور السنوات وتقدم القصيمي في العمر والفكر، ودخول الوطن العربي في أزمات وهزائم جديدة، بدأ يتخلى عن قيمه الدينية المحافظة ويعتنق القيم الليبرالية التي لا تنتهي عند حدود معيّنة، ولقاء ذلك تعرض لانتقادات قاسية واتهامات وتهديدات بلا حساب. لقد كان سلاحه الأقوى هو النقد الجذري والشديد الاندفاع، وهدفه هو خلخلة الماضي، والخلاص منه؛ لأن استعادة الماضي هي "سرقة للحياة"، و"سرقة للتاريخ" في رأيه. هكذا قاده تحوله من الداعية الإسلامي المدافع عن القيم والثوابت الدينية والقومية إلى ناقد شرس للفكر الديني والثقافة الماضوية وجميع أشكال التخلف. وعيبه الواضح هو أنه كان بلا منهجية علمية، ولذلك تجيء الكثير من انتقاداته عارية من المعايير الموضوعية، أي لم يكن له مذهب أو اتجاه نقدي واضح المعالم. ويبدو أن تناقضاته تنجم عن افتقاره للمنهجية، ومن جهة أخرى تنبع من تشظيّاته النفسية، وصداماتِه الكثيرة والخطيرة. والقصيمي في كتابه (الإنسان يعصي، لهذا يصنع الحضارة) يكتب ويتساءل: «هل يوجد إنسان واحد ليس فيه إلا شخص واحد؟ هل يوجد إنسان واحد ليس فيه أشخاص عديدون مناقضون له، وأيضًا متناقضون؟».

هذا الرجل الذي مارس النقد الذاتي بلا حدود، هو نفسه ليس فوق النقد، والمطلوب أن ندرس فكره على نحو عميق وصادق، ونخضعه للنقد الموضوعي الناضج، الذي لا يتبنى مواقف جاهزة عدائية أو غير نزيهة ضد شخص المفكر.

حتى في زمن الشدة السياسية والرقابة الثقافية، يجرؤ القصيمي على قول الحقيقة التي يؤمن بها، حتى لو كانت مُرعِبةً، ولكنه بعد خروجه من الثقافة التي جاء من صميمها، وخروجه عليها، أصبح يكتب ولا يؤمن بشيء، يتحدى كل ما هو موجود، يثور على كل شيء، حتى نفسه، وحتى على الثورات التي كتب ضدها واعتبرها خطرًا فادحًا على الحضارة والحياة معًا، وأنها لا تدفع بالشعوب إلى الأمام، وإنما تهدم أكثر مما تبني، وأما موقفه فإنه مع التقدم الذي يصنعه العلم والفكر، مع التقدم المجرد من العنف بجميع أشكاله، مع التغيير غير العُنفي، مع ثورات العلوم والأفكار.

وكان يكره الخوف والجبن والهوان والتملق والنفاق والمديح والهروب من وجه الأخطار. ومما يقال عن القصيمي إن الجدل عنده كان من أجل إثارة الجدل فحسب، وإنه كان طالبَ شهرة أو يلهث وراء مجد فارغ من خلال خروجه على كل ما هو سائد في حياتنا الثقافية العربية. ولكن، هل يكون مفكر عتيد مثل القصيمي بحاجة إلى الشهرة؟ وأولئك الذين يعزون تمرده الفكري وكتاباته إلى مشكلة نفسية، فلن يكونوا منصفين أبدًا. وأنصار القصيمي المفكر يقولون إنه ليس من اللائق أخلاقيًا ولا نقديًا أن نطعن في شخصه بدلًا من نقد فكره، إن هنالك فرقًا كبيرًا بين تكفير الفكر ونقد الفكر، وهم مع الدعوة إلى مناقشة أفكاره ونقدها بحرية، مع احترام صاحبها. 

والقصيمي عاش حياة صدامية وثورية بكل ما تعنيه هذه الكلمات، وأغلبية أفكاره وتفسيراته مشحونة بطاقة هائلة من المشاعر الساخطة والمتحررة من القيود والمخاوف والأوهام. وثمة مرارة مفرطة نحس بها في كتابات هذا القصيمي الذي تطرّف في كل ما كتبه، وكان أكثر تطرُّفًا وسخطًا بعد أن تحول إلى كاتب متحرر. ومرارته المبالغ فيها، هي مرارة المفكر المتألّم من وجوده وحياته ومن مجتمعه كله، ولكَمْ كان يسرف في تعمقه وحماسه أثناء الكتابة، فتجيء أفكاره وأحكامه على الناس والأشياء وتفسيراته للوجود البشري والكون متجاوزة لحدود المنطق والممكن، إنها إما صادمة أو غير معقولة. فالقصيمي منطقي أحيانًا إلى درجة الجنون، وتنويري أحيانًا إلى قمة العدمية.

والكتابة عنده إنما هي مخاطَرةٌ لا تعرف الخوف والاستسلام والتفاؤل الكاذب، حتى كأن فلسفته عن الكتابة تعني أن يتمرد الكاتب على كل شيء، سواء لغاية ما أو بلا هدف، وليكن ما يكون!

وعلى الكاتب، يقول القصيمي، «أن يكون ناقدًا دائمًا وألا يكون مُعلِّمًا أبدًا»، كما يقول إن «فكرة الكاتب العظيم أن يقاوم كل ما هو موجود، أما الكاتب الرديء ففكرته أن يتوافق معه».

إذن، فالكاتِب مهمته كشف الحقائق ونزع الأقنعة وتحطيم الحواجز وإثارة التساؤلات وتحريك الأذهان الجامدة، ويجب أن يبتعد عن الوعظ وألّا يكون داعية أو مُهرِّجًا، فليست مهمته إصلاح أحوال الناس، ولذا ظل القصيمي ينقد كل شيء بغضب وحِدّة، ويتصدى للمشكلات بالنقد الشرس، من دون أن يقترح أية حلول لها.

‏وقد عانى القصيمي كثيرًا من التضييقات القمعية التي تصدت لأفكاره المخالفة للسائد، وفي كتابه (العالم ليس عقلًا) ينقد الكتابة والفكر والكلمة والثورة وحتى نفسه، بل لم يتصالح مع الحياة، فيقول بمرارة: «الحياة مملوءة بالطاعة والجبن والهوان. فكم هي قبيحة وأليمة هذه الحياة!»، ويقول بحماسة عالية: «إن روعة الحياة في الأخطار والحماقات الباسلة». وعن الحياة، يقول أيضًا في كتابه (فرعون يكتب سِفْر الخروج): «إن قوة الحياة ونشوتها في الهرب إلى المخاطر… في رفض الأمان. ما أجمل الهرب من الأمان، وما أقوى وأبسل الرفض له»، وأيضًا «لذة الحياة وتكاملها في التعب، في الحماس والارتجاف، في الشك والتطلع والجيشان، في البحث عن التغيير والمفارقة وإرادتهما». هذه نطفة من بحر فلسفته عن الحياة.

يدعونا القصيمي إلى عدم الهرب من أمام الأفكار الخطرة، والأفضل لنا أن نواجهها مثلما نواجه أي شيء، أي خطر، لأنّ هروبنا من الفكر المخالف إنما يعني، في الحقيقة، خوفنا وهروبنا من مواجهة أنفسنا، هكذا يُعلّمنا، ولكن أفكاره المحمّلة بكل معاني الرفض لم تُقرأ قراءة واعية عميقة، ولكنها، على العكس، تعرّضت للقَمع والتضييق والمنع الرسمي من النشر..

اليوم، هناك من يتساءل: هل حان الوقت لنقرأ القصيمي قراءة جديدة غير سطحية ولا متوتِّرة؟ ولماذا نحن العربَ نقتل مفكرينا الأفذاذ؟ نقتلهم بالضجيج والتعصُّب والتهميش والتشويه ونرميهم بأقسى وأسوأ الاتهامات. ثم، أليس يستحق هذا الرجل شيئًا من التقدير، بغض النظر عما إذا كنا نختلف معه أو نتفق؟

 قراءة كتبه المتمردة على الموروثات تشبه القفز في حريق كبير، إنه لا يكتب بقلم مملوء بالحبر بل بقلم مشحون بغضبٍ عاصف، يكتب كمن يحارب على مختلف الجبهات، ولا يتخوّف من شيء، يقول كلمته ويمشي، وهذا ما سيجلب له الأعداء من جميع الجهات.

عام 1977 طُبعَ كتابه لأول مرة في فرنسا، وهو (العرب ظاهرة صوتية) وبهذا الكتاب يكون القصيمي قد كتب سفر خروجه بشكل نهائي من هذه الثقافة التي احتضنته، إنه ليهاجم العرب بمنتهى الهجاء، ويهاجم المتنبي خصوصًا، وبقسوة غير محدودة، والأمجاد العربية يعتبرها أمجادًا زائفة أو فارغة، ويتهكم ساخرًا من كل ما هو عربي في الماضي والحاضر. ونحن لا نستطيع أن ننقد هذا الكتاب، ذلك لأنه ينقد نفسه بنفسه، فهو يمثّل هجوم صاحبه على نفسه، إنه ليس نقدًا ذاتيًا، بل كان عنفًا صارخًا على الذات، ويمكن القول إن القصيمي في هذا الكتاب إنما كان يهجو نفسه، بشكل أو بآخر، بجنون مليء بالحماس.

القصيمي شخصية قلقة، كان يعيش القلق، وقلقًا على الدوام، وهو محارب شرس، لا يقبل كافة أنواع الإغراء ولا يخشى أي تهديد، ويمتاز بقدرة حادة على التحديق في الأشخاص والأشياء والأحداث، هكذا يصفه صديقه المحامي والكاتب المصري إبراهيم عبدالرحمن صاحب كتاب (خمسون عامًا مع عبدالله القصيمي).

أمّا في العمق، عمقه الشخصي، فلم يكن عدَميًا ولا عبثيًا، حتى وإن كان ينكر أن للوجود البشري معنى، وها هو ذا يتكلم: «إني أفكر في نفسي فأخجل من كوني حيًّا وإنسانًا حين أجدني لا أحقق أو أحترم معنى الإنسان وقيمة الحياة، ولا أعطيها شيئًا غير أن أستهلكها في مذلة وركوع». ولم يكن متشائمًا بصورة بشعة، كما يُتّهم، والحق أنه كان مُبالِغًا في واقعيّته، جِديًّا وصارمًا إلى أقصى الحدود التي تذهب إليها ثوريةُ المفكر المتمرد. وعلى أي حال، يستحيل أن يكون القصيمي مارس الجدل والكتابة لمجرد العبث وإثارة الضجيج فحسب.

لا تزال أفكاره وكتبه الجدلية تُحاكَم أو يُساء فهمها من قِبَل المتدينين والمثقّفين السلفيين والمحافظين؛ على أنها، من وجهة نظرهم، شاذة وعبثية ولا خير فيها يمكن أن يستفيد منه مجتمعنا العربي والإسلامي، ولكن هذا، في رأي مناصري القصيمي، ليس نقدًا موضوعيًا؛ بل هو إطلاق هجومي وحكم غير منصف، من جهة يصدر عن أحكام مُسبَّقة، ومن جهة أخرى ينبع من قراءات سطحية لأعماله.

ويتمتع القصيمي بميزتين بارزتين: قُوة تعبيرية فائقة، وشجاعة عقلية مغامِرة وغير مصطنعة. على أننا قد لا نختلف على أن شخصيته امتزجت فيها حُريّة الفكر واستقامة السلوك، وهو بالتأكيد يحرّض الإنسانَ على أن يكون نبيلَ السلوك وحُرَّ التفكير بلا حدود. وطبيعته النقدية لا تعرف الاعتدال البتة، أو روح الاعتدال لا مكان لها في لغته ونزوعه الفكري. وليس من شك في أنه لو كان موجودًا بيننا الآن، لكرهَ جميع الذين يمتدحونه؛ ذلك لأنه كان يكره المديح والمادحين، إذ يقول هو نفسه إن «المادحَ كاذب حتى وهو صادق».

ولمعرفة المزيد عنه، يقودنا كتاب (عبدالله القصيمي، التمرد على السلفية) للكاتب الأكاديمي الألماني يورغن ڤالا، الذي ترجمه محمد كبيبو للعربية، إلى الكثير من المعلومات والحقائق عن حياة القصيمي، لا بل ينقل إلينا صورته الحقيقية، بلا رتوش أو تزيينات، وقد ساعده على ذلك القصيمي نفسه. وهذا الكتاب عبارة عن دراسة متكاملة، مكثفة وموضوعية، وماتعة لأنها مصاغة بأسلوب أدبي سلس، مما يعطيها أهمية كبيرة. نعم، هذا الكتاب يأخذ القارئ، بكل تشويق، إلى صميم فكر القصيمي، ويغنيه بما فيه الكفاية.

وما من شك أن الفكر والإبداع لا يزدهران إلا في جو من التسامح العام، ونحن إذا لم نتسامح مع أراء مفكرينا ومبدعينا، سيّما أصحاب الآراء الجديدة والمخالِفة، فلن تزدهر حياتنا الثقافية والاجتماعية.

 

هامش:

تستفيد هذه المقالة من المصادر المذكورة في متنها.


عدد القراء: 2148

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-