كيف يمكن للعمارة أن تحقق السعادة في حياتنا؟الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-05-31 23:29:06

أ.د. بدر الدين مصطفى

أستاذ علم الجمال- آداب القاهرة

الكتاب: "عمارة السعادة"  

المؤلف: الآن دي بوتون

الناشر: Vintage

عدد الصفحات: 280 صفحة

تاريخ النشر: 8 أبريل 2008

اللغة: الإنجليزية

ما هي مواصفات المبنى الجميل؟ وكيف لنا أن نحددها في ظل ما يسود عالمنا الراهن من سيولة معيارية أضفت صفة النسبية على تقييماتنا الجمالية، فغدت محاولة الإجابة عن أسئلة من هذا النوع تمثل إشكالية كبري. ذلك أن فكرة الجمال تبدو كأنها غير ناجعة وبها ضرب من السذاجة، حيث لا يمكن لأي شخص الادعاء بمعرفتها أو ترجيح نمط ما على نمط آخر أو الدفاع عن خيار معين في مواجهة الأذواق المقابلة للآخرين. والواقع أن المراقب للحالة الجمالية الراهنة سيدرك أن المفاهيم الكلاسيكية للجمال والإبداع قد اختفت من دائرة النقاش التقليدي للهندسة المعمارية وبات الحديث ينحو أكثر وأكثر صوب الوظيفية التي ميزت مرحلة الحداثة على مستوى التصميم المعماري.

في كتابه عمارة السعادة The Architecture of Happiness يناقش الآن دي بوتون Alain De Botton السؤال الذي اتخذناه عنوانًا لهذا المقال، لكنه في الوقت ذاته لا يقدم طرحًا معياريًا لمفهومي الجمال والسعادة بقدر محاولته فتح آفاق للتفكير والتأمل لما يمكن أن "يفصح" عنه الوسط المحيط بنا، أو حسب تعبير المؤلف نفسه "ما يريد به الوسط المحيط بنا قوله لنا". هذا الوسط، هو قبل كل شيء، البيئة المحيطة بنا والأبنية التي نسكنها أو العمارة كما ينص عنوان الكتاب.

في افتتاحية الكتاب يؤكد المؤلف على أهمية ما تثيره الأشياء الصغيرة، التي تحيط بنا، من أفكار وتأملات، بل يذكر أيضًا، على سبيل المفارقة، أن هذا الكتاب نفسه هو وليد "فكرة صغيرة" انبثقت ذات لحظة في رأسه "كنت قد لاحظت أنني أشعر بالسعادة في بعض الشوارع أكثر من غيرها. وقد حاولت أن أعرف سبب ذلك فكان هذا الكتاب".

من جهة أخرى يؤكد بوتون على العلاقة الشاعرية التي تربط بيننا وبين الأمكنة التي تحيط بنا؛ تلك التي نعيش فيها. ولا يمكن النظر إلى هذه العلاقة مع المكان بمعزل عن منابع ذكريات الطفولة وبـ"الأمكنة" التي تنتمي إلى الوطن. وفي كل تلك الحالات يشدد المؤلف على أن "أماكننا التي ننتمي إليها" تثير فينا "بالضرورة" الكثير من العواطف والتأملات والأفكار "لحسن الحظ أو لسوئه بالنسبة لنا، إننا أشخاص مختلفون نوجد في أماكن مختلفة".

 بهذا المعنى يريد دي بوتون أن يجد رابطة بين المكان الذي نسكن فيه وبين ما يجول في رأسنا من أفكار. وبالتالي يسعى لأن يؤكد على أهمية البعد "العاطفي" و"الانفعالي" المرتبط بالعمارة، ذلك لأن "البشر يبحثون في قرارة أنفسهم عن الجميل لا عن المال فحسب". غير أن الملاحظ في يومنا هذا، وهو ما ينتقده المؤلف، غياب مفهوم الجمال عن التصميمات المعمارية السائدة مقارنة بالفترات السابقة في تاريخ العمارة "كان المهندس المعماري، في الأزمنة القديمة، مهندسًا وفنانًا في الوقت نفسه. أما اليوم فإن المهندسين المعماريين لديهم تصورًا تقنيًا بحتًا لمهنتهم. وهناك مواكبة واضحة بين فن العمارة الحديث والأدب المعاصر (...). ففي الحالتين يتم نسيان متعة تذوق الجمال".

 يرى بوتون أنه إذا كانت قدرة الهندسة المعمارية على توليد السعادة متقلبة، فقد يكون هذا نتاجًا لأن السعادة نادرًا ما كانت غاية للهندسة المعمارية. غير أن "السعادة" في حقيقة الأمر هي الغاية القصوى لكل ما يسعى إليه البشر، وهي تمثل الهدف الأسمى لهم مهما كانت سبل الوصول إليها مختلفة ومتباينة. هكذا قد يجدها البعض، كما يشير، في القراءة وفي إمضاء أوقات "سعيدة" مع أفلاطون أو بلزاك أو بودلير، ويجدها آخرون في الفن والاستغراق في عالمه برفقة دافنشي أو بيكاسو أو هذا الفنان أو ذاك. وقد يجد البعض السعادة في السفر، الذي أفرد بوتون كتابًا خاصًا له هو "فن السفر".

وللجانب النفسي أهمية كبيرة في العلاقة التي تربط البشر بالوسط المحيط بهم، حيث العلاقة وثيقة بين المكان والإحساس به. وهكذا يمكن للمواقف البسيطة التي يعيشها المرء أو ربما تلك التي يعيشها أولئك الذين يصادفهم في لحظة معينة أو في أوضاع معينة، أن تثير العديد من التساؤلات التي قد تتجاوز حدود الموقف نفسه وتتخطاه أحيانًا إلى نوع من "التأمل الميتافيزيقي لما هو خارج الأشياء الملموسة". وهذا ما يعبر عنه بوتون بقوله "تدهشني دائمًا السهولة التي يستطيع البشر بواسطتها أن يربطوا بين العالم السيكولوجي والعالم المرئي أو المسموع"، ومثل هذا "الربط" قد يثيره موقف بسيط قد يبدو بـ"لا معنى" ولكن الوسط المحيط يحمله بالعديد من "الدلالات".

يرصد بوتون في كتابه العلاقة التي تربط "الجمال" بـ"السعادة". وهو يؤكد بصورة مباشرة على القول بأن الأشياء التي تثير فينا المشاعر ونعتبرها جميلة إنما تكون، بصيغة ما، نوعًا من  التمثيلات للبشر الذين نحبهم. بالطريقة نفسها يمكن للأماكن التي نشعر فيها أننا، بصيغة ما، سعداء أن تكون "نسخة" عما كان قد أثار فينا ذات يوم مشاعر سعيدة هي الأخرى.

لذلك، هناك أنماط مختلفة من الهندسة المعمارية، ولكل منها مجموعة من القواعد الخاصة به. ولكن لماذا نستمتع بجماليات بعض المباني والأشياء أكثر من غيرها؟ أحد أسباب ذلك هو أن أي موضوع مُصمم، سواء كان مقعدًا أو مبنًا أو حتى طاولة، يتحدث إلينا على مستوى القيم النفسية والمعنوية على حد سواء. لنفكر فقط في الطريقة التي قد تشير بها مجموعة الأواني الفخارية الاسكندنافية البسيطة إلى أسلوب حياة متواضع وسلس، في حين أن أسلوبًا مزخرفًا ينطوي على نمط حياة احتفالي يوحي بالطبقية. وعلى نحو واضح، فإننا نجد القطعة المصممة جذابة أو جميلة إذا كانت القيم وأسلوب الحياة الذي تنقله يروقان لنا ويتماشيا مع قيمنا. وبهذه الطريقة، قد يجد أحد معتنقي الفكر الاشتراكي أن الأواني الفخارية المزخرفة مثيرة للاشمئزاز لأنها تفصح عن طبقية بغيضة. علاوة على ذلك، يمكن أن تذكرنا أيضًا طريقة تصميم الأشياء والمباني بأنماط الشخصيات. لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا، لأن خلع الصفات البشرية على الأشياء هو ميل طبيعي لدينا. فقط فكر في الأقواس الطويلة الرفيعة المدببة لكاتدرائية قوطية؛ قد يذكرنا ذلك بشخص ما لديه اندفاع عاطفي أو سمات شكلية تستدعيه تلك الأقواس.

على هذا النحو، لا يزال من المنطقي أن نسعى لتصميم بيئتنا استنادًا إلى المثل العليا في حياتنا. ولكن ما هي أنواع المثل العليا التي نبحث عنها في الهندسة المعمارية؟ ببساطة، تلك التي تجعلنا أفضل. تدعي إحدى النظريات أن الناس يسعون للتواجد حول مبانٍ تجسد الصفات التي يشعرون أنهم يفتقرون إليها.

نعرف الآن إذن أن العمارة التي نجدها جميلة هي تلك التي تعكس قيمنا- ولكن لماذا يجب علينا أن نهتم بذلك؟ وفقًا لبوتون يساعدنا ذلك على إخراج أجزاء من شخصيتنا. وهذا أمر في غاية الأهمية لأن البشر لديهم الكثير من المستويات النفسية المتراكبة على نحو معقد؛ بعضها لا يمكن الوصول إليه بسهولة. على سبيل المثال، لا يمكننا ببساطة الاستفادة من طبيعتنا الإبداعية في أي وقت نريده. بدلاً من ذلك، علينا أن نكون في البيئة المناسبة لكي نعدو مبدعين؛ حديقة جميلة بطبيعة الحال أكثر إلهامًا من مكان مغلق مزدحم.

وقد استخدمت بالفعل هذه الحقيقة البسيطة بأشكال عدة. على سبيل المثال، تستخدم الهندسة الدينية المبدأ أعلاه لشحذ الجانب الروحاني للناس. أراد مصممو أماكن العبادة، انطلاقًا من معرفتهم بالحقيقة السابقة، أن يستخدموا مبانيهم لتوصيل معلومات عن أيديولوجياتهم الدينية المتعلقة بالعبادة والطبيعة الروحانية والتأمل. لذلك، بنوا الكاتدرائيات ذات الأسقف العالية والقباب والزجاج الملون للمساعدة في تعزيز الجوانب الروحية والتأملية للأشخاص الذين سيدخلونها.

يستخدم دي بوتون في كتابه الكثير من الرسوم "التوضيحية" أو التي تمثل أحيانًا أعمالًا فنية شهيرة ثم يحاول أن يقيم علاقة بين ما يكتبه وما يمكن أن توحي به الرسوم المرافقة. هكذا ينقل القارئ معه إلى شوارع طوكيو أو البرازيل أو إسبانيا مثلما ينقله إلى عوالم العمارة القوطية والحديثة وما بعدها. وفي هذه الحالات كلها يحاول المؤلف أن يقدم وصفًا لـ"انطباع الجمال" في كل مكان من الأمكنة والسبب الذي يجعل "كل نمط معماري دالًا على مفهوم خاص للسعادة".

  يبدو دي بوتون متأثرًا على نحو كبير  في أطروحته بأفكار أفلاطون المثالية عن "عالم المثل" وتجلياته في الواقع المعاش للبشر. يقول "إن ما نبحث عنه في الأشياء التي تحيط بنا ليس بعيدًا في النهاية عمّا نحبه لدى أولئك الذين نود العيش بقربهم". وعلى الرغم من هذه الذاتية التي تفرضها المثل العليا الخاصة بكل منا والتي تتباين بطبيعة الحال نتيجة العديد من العوامل التي تؤثر فينا ونؤثر فيها، فإن السؤال عن هل هناك معيارًا ما يمكن النظر إليه بوصفه معيارًا عالميًا للجمال في الهندسة المعمارية؟ يدعى بوتون أن النظام هو المعيار المشترك والهدف الذي ربما يتوافق حوله قطاعات عريضة من البشر. هذه الحاجة منطقية لأن النظام يتوافق مع ذواتنا الأكثر عقلانية؛ نحن نقدر النظام لأننا نفهم أن الطبيعة لا يمكن أن تنتجه أبدًا. وبهذه الطريقة، يحمينا النظام من فوضى العالم. ومع ذلك لا يفضي النظام دومًا إلى الجمال، ففي حين أن مجموعة واحدة من الشقق المتراصة جوار بعضها بعناية قد تكون جذابة، إلا أن ذلك لا ينطبق على مجموعة كاملة من المباني المتماثلة حيث تبدو قبيحة للغاية.


عدد القراء: 4473

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-