الأمومة عند بدو العراق والجزيرة العربية كما رآها الرحالة الغربيينالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2021-05-28 14:01:29

د. علي عفيفي علي غازي

أكاديمي وصحفي

تذكر الليدي درور، أو أثل ستيفانا ستيفنس Ethel Stefana Stevens 1879 - 1972، أن أعظم حدث في حياة المرأة البدوية هي أن تصير أُمًا1، ويرى ماكس فون فون أوبنهايم Max Von Oppenheim 1860 - 1946 أن الزواج عند المرأة البدوية وسيلة لغاية هي إنجاب الأطفال، ويتبين مفهوم الأمومة بوضوح عندما نعرف أن الزوج، وجميع أفراد العائلة يتخلون عن تسمية المرأة باسمها حالما تُنجب ولدًا، وينادونها باستعمال اسم المولود الجديد فتصبح "أم فلان" خاصة إذا كانت زوجة لأحد الشيوخ2. والمرأة شأنها شأن زوجها، ترغب في أن ترى في بيتها فتيانًا أقوياء، وأن تسمع الناس ينادونها بـ "أم فلان"، فذلك بالنسبة لها شرف تتلهف إلى تحقيقه، وتُكسبها هذه الأمومة ميزة أُخرى، هي نوال الحظوة لدى زوجها، ويشتد احترام الرجل البدوي للمرأة بصفة متميزة عندما تنجب ولدًا، ولهذا الأمر الأخير، في نظرها، نفس الأهمية3.

تُسارع إلى المرأة البدوية حالما تعلم أنها حامل فتعلم بقية النساء عن خبرها، ويُصبح الأمر فُرصة للفرح. ويشير هارولد ديكسون  Harold  Dickson 1881 - 1959 إلى أن من أعظم أمنيات المرأة البدوية أن يكون لها ولد. وهي فكرة نشأت معها منذ طفولتها. هذه الرغبة الطبيعية في أن تكون أمًا تتعزز لارتباطها باللوم الذي يلحق بها إذا لم تُنجب أطفالا، وخوفًا من أن تُطلق إذا لم تُنجب ولدَا وريثَا لزوجها4.

تتمّ الولادة في البادية بطريقة في غاية السهولة، ولا تمثل حدثًا متميزًا في الحياة اليومية، ولا تؤثر على الأشغال العادية للمرأة البدوية5. فهي حادثة كثيرة الوقوع، وعملية الوضع عند المرأة تُعد حدثًا فسيولوجيًا، وأمرًا بسيطًا، ولا تمضي ساعتان أو ثلاث على الوضع حتى تعود النفساء إلى أعمالها المنزلية المعتادة، أما إذا أدركها المخاض في الطريق، وهي راكبة، لا تطلب قابلة، وتلد وهي راكبة على ظهر ناقتها، والقوم ظاعنون، وتقطع حبل السُّرة بنفسها، وتلف الرضيع بثوبها، ثم تحمله6، وتستأنف سيرها، وتلحق بقبيلتها. وحياة المرأة البدوية بعد الولادة تعود كما كانت قبلها، فلا يتغير نمط غذائها، إلا أنها تلجأ إلى استعمال عقاقير متنوعة لإعادة حجم البطن إلى وضعه الطبيعي، أو أقل، وتُعلل السبب بقولها "هذا ما يسر الزوج"7.

والعنايات الأولى بالوليد بسيطة، يُغسل بدنه بالرمل، وقد يُدهن بالزيت، وهي طريقة حسنة لأن ذر الرمل ذو قوة امتصاص كبيرة، ثم إن الرمل يمنع العطن عن جلده، الذي ما يزال في القماط، ثم يُكحل، ويُلف بخرقة مشدودة بخيوط القنب، ويضعون على رأسه طاقية صغيرة عليها تمائم. ويُضيف الأغنياء إليها ريشة نعام، وعند ولادته يُحمم الطفل ببول النوق. وعند الرغبة بالكشف على الطفل لمعرفة ما إذا كان قد تغوط أو تبول، فإنه يوضع فوق قطعة مستديرة من الجلد تُسمى "النطاح"8. ومن هذا يتبين أن عملية الوضع شأن خاص بالمرأة، ولا يعني به الرجل، وإن كان يعني كثيرًا بما أنجبت له زوجته، خاصة إذا كان ذكرًا.

تُستقبل ولادة البنت في مضرب البدو دونما بهجة، ودونما أي مظهر من مظاهر السرور أو الرضا من جانب الأقارب، فالأم تصمت وتقول في صوت خفيض "ما هي إلا بنت". ولا تُقدم إليها أية تهنئة من النساء، وهكذا تُستقبل البنت غير المرغوب فيها كما في الجاهلية. ولكن المشهد يتغير إن كان الحظ قد أسعدها بولادة ابن فبمجرد ذيوع الخبر؛ تُهرول النساء إلى خيمة الأم المحظوظة، وتُسمع صيحات الفرح، ويبدأ الغناء "ولدت ولد، مبروك، مبروك". وفي الحال يبحث الأب، وقد تملكه الفرح بأن صار له وريث، عن ضحية (عقيقة) يأتي بها إلى باب الخيمة، وتوضع في مواجهة الوالدة وتُذبح، ويقول من يذبحها "رشوشة الولد"، وفي نفس الوقت يُعد الحطب لإشعال نار على شرف أم الطفل، وتُسمى نار الحي، أي نار الذي على قيد الحياة، وتوضع تحت الخيمة حيث تظل مشتعلة مدة ثلاثة أيام وثلاث ليال، وبعد انتهاء الأيام المُقررة تُترك لتنطفئ. ولا تُتبع نفس العادات عند ولادة البنت، لأنها، حسب اعتقادهم، ليست لها أية فائدة، لا لأبيها ولا لأسرتها، ولا لقبيلتها، فهي لا تأتي بشيء ولا تُعطي شيئًا، إنها تأخذ فقط، إن فائدتها تقتصر على زوجها، أما الابن فهو يخدم الأسرة والعشيرة بكاملها، وفي ضوء ذلك تُشكِّل وجهة النظر النفعية أساس مظاهر الفرح، أو عدم المبالاة الكامل لحظة ولادة الأطفال 9.

والوليد يُحمم سبعة أيام بعد ولادته ببول النوق، ويُفرك جسمه بالملح. وفي اليوم العاشر أو العشرين أو الأربعين تقوم النسوة من قريبات الوالدة بجمع الأطعمة لعشاء تُدعى إليه كافة النساء، وبعض الرجال، فيستطلعون هيئة الطفل. وبعد العشاء تقوم الأم بزيارة أقاربها ومعها الطفل، وتجمع منهم الهدايا. وهنا يُقدم كل شخص هدية غالبًا ما تكون جملا صغيرًا أو مُهرًا، وتظل الهدايا ملكًا للطفل. وحين تعود الأم إلى البيت تُعلن اسم الطفل للأقارب وتُسمى الأم، دون سواها طفلها، وهذا أحد امتيازاتها10. هذا الاحتفال يدعى "طلاعة العيل"11.

واسم البدوي يتألف من اسم أولي مضاف إلى اسم الأب أو اسم الأسرة التي ينتمي إليها كنوري بن شعلان، وإذا صادف مرور ضيف جليل القدر بهم أثناء حمل الأم يُسمى الوليد باسم هذا الضيف12. والأسماء التي تُعطى للأطفال بعد ولادتهم غريبة، وفي أحيان كثيرة تكون لها علاقة بالظروف التي رافقت الولادة، مثلاً، موهق، الذي يعني "جالب الهم"، أو إنها تعني أمنية للطفل، مثل "جمل"، أي نتمنى له أن يكون قويًا كالجمل، أو "برغوث" أي نتمنى له أن يكون مزعجًا لأعدائه كالبرغوث. أو إذا ما كان اسم الأب "حصان" فقد يُسمى الابن "مهر". كما أن الأشياء الصغيرة مثل "حجر الصوان الصغير"، أو "دلة القهوة" يمكن أن تكون أسماء أيضًا. وقد تحمل البنت مثلاً اسم "سدينا" أي انتهينا13. ويسمى البدو المولود المريض باسم صُلبي، لكي يحيا ويعيش بإذن الله14. وهناك كثير من رجال العشائر لهم أسماء غريبة غير مُستساغة، مثل حليب، بقر، خنزير، جريدي، وادي، ضبع، كوسج، عفريت، بعرور. يطلقون هذه الأسماء حتى يطردوا عيون الحُساد، وهم يُسمون الأطفال الذين يُولدون حديثًا بهذه الأسماء، وخاصة إذا سبق ومات أخ لهم15 .

والأم تختار الاسم أحيانًا دون كثير من التفكير، أو تأتي أحيانًا أخرى باسم يفرضه تأثير معين. ومن ذلك أن زوجة النوري وضعت غلامًا، والقوم نازلون بالقرب من قلعة خفاجة، فأسمت وليدها خفاجة. وأخرى وضعت والمطر يهطل فأسمت صغيرها مطرًا. وكذلك رجت زوجة كردي أن يرزقها الله غلامًا فأجاب رجاءها فأطلقت عليه اسم رجا. وعانت زوجة عودة الكويكبي مخاضًا عسيرًا فقالت للوليد "لسوف تدعى عسير". وهناك امرأة امتلأ قلبها ثورة بسبب اتخاذ زوجها زوجة ثانية، فأسمت ابنها "مريض". كذلك فإن العبد حمار ضرب زوجته قبيل ولادة ابنها فزعلت منه، وأسمت ابنها "زعل". ولما ولدت بعد حين بنتًا قالت الأم "إن اسم والدك حمار، ولسوف يكون اسمك أنت بقرة". وليس ثمة حيوان أو نبات إلا ويطلق اسمه على الولد16.

ويطلق البدو أسماء الحيوانات على أبنائهم، ويعود سبب ذلك إلى اعتقادهم وإيمانهم بالسحر والروح، وهذه الاعتقادات قديمة، وقبل الإسلام بزمن بعيد. إذ يعتقدون أن إطلاق اسم الحيوان على المولود الجديد يحفظه ويُبعده من الحسد. كما أن إطلاق اسم الحيوان الضاري، كلب، أسد، نمر، فهد، على الأفراد، يُعطي القبيلة هيبة17.

 

الهوامش:

1 - الليدي درور: على ضفاف دجلة والفرات، فؤاد جميل (ترجمة)، (لندن: شركة الوراق للنشر المحدودة، 2008)، ص 318.

2 - ماكس أوبنهايم: رحلة إلى ديار شمر وبلاد شمال الجزيرة، محمود كبيبو (مراجعة وتدقيق)، (بغداد: دار الوراق للنشر، 2007)، ص 154.

3 - جوسان وسافينياك: "أعراف قبيلة الفقراء (2)"، محمود سلام زناتي (ترجمة)، مجلة العرب، الجزء 11، 12، السنة 27 (نوفمبر -ديسمبر 1992)، ص 755.

 4 - ديكسون: عرب الصحراء، (بيروت: دار الفكر المعاصر، 1996)، ص 127، 150.

5 - أوبنهايم: رحلة إلى ديار شمر، ص 160.

6 - ألويس موزل: "أخلاق عرب الرولة وعاداتهم"، محمد بن سليمان السديس (ترجمة)، مجلة الدارة، العدد 1، السنة 13 (شوال 1407)، ص 167.

7 - ديكسون: عرب الخليج، ص 151، 152.

8 - ديكسون: عرب الخليج، ص 151، 156، 157.

 9 - جوسان وسافينياك: "أعراف قبيلة الفقراء (2)"، ص 754، 755.

10 - ألويز موزيل: في الصحراء العربية، رحلات ومغامرات في شمال جزيرة العرب 1908-1915، عبد الإله الملاح (ترجمة)، (أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2010)، ص 115.

11 - موزل: "أخلاق عرب الرولة"، ص 168.

12 - عمار السنجري: البدو بعيون غربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2008)، ص 16.

13 - جوهن جاكوب هيس: بدو وسط الجزيرة (عادات–تقاليد-حكايات وأغان)، محمود كبيبو (ترجمة)، محمد سلطان العتيبي (تقديم)، (بغداد: دار الوراق للنشر المحدودة، 2010)، ص 258.

14 - أحمد عبد الرحيم نصر: التراث الشعبي في أدب الرحلات، (الدوحة: مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، 1995)، ص 144.

15 - ويلفريد فيسجير: رحلة إلى عرب أهوار العراق، خالد حسن الياس (ترجمة)، (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2006)، ص 59، 60.

16 - موزيل: في الصحراء العربية، ص 115، موزل: "أخلاق عرب الرولة"، ص 168.

17 - ماكس فرايهير فون أوبنهايم: البدو، الجزء الرابع: خوزستان-إيران "عربستان"، محمود كبيبو (ترجمة)، (لندن: شركة دار الوراق للنشر المحدودة، 2007)، ص 137، 138.


عدد القراء: 3404

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-