روايـات الحـرم الجـامـعي (3-3)الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 13:25:56

د. أشرف إبراهيم محمد زيدان

جامعة بور سعيد/كلية الآداب/مصر

1.7.6. رواية فيليب لاركن (جِل)

وفي العام نفسه خالف (فيليب لاركن) التقاليد الثابتة لأوكسفورد عندما نشر روايته الأوكسفوردية (جِل)؛ إذ رآها أحد النقاد عمل روائي متميز، بين الأعمال التي تمثل فترة ما بعد الحرب. وتدور أحداثها حول بطل نازح من الطبقة العاملة، وأوكسفورد التي يعلمها لاركن وهو طالب كانت هي أوكسفورد في زمن الحرب، حيث كانت تتميز بالصرامة والتقشف؛ فقد أُلغيت كل الأنشطة التي يقول لاركن عنها في مقدمته: "إن نقص الدماثة متوازن مع نقص الحماقة يستوي في ذلك احتفاليات الكلية أو بذخ الطلاب، هناك قابل وتصادق مع كينغسلي إيمس، وفي مقدمته لرواية (جِل) يشير إلى مآثر إيمس الكوميدية بوصفه مقلدًا ومهرجًا بطريقة تهيئ القارئ لأنشطة (ديكسون) بطل روايته المعروفة بــ (جِم المحظوظ).

وعلى خلاف رواية (زيارة برايدسِد مرة ثانية) فإن رواية (جِل) لا يمكن أن تعد من روايات (ذكريات الحنين)، ولكنها رواية تمثل (واقعية 1940م)؛ إذ تمزج مجموعة من الأفكار الجديدة في الحبكة الجامعية، إن بطل الرواية (جون كيمب) طالب منحة من شمال إنجلترا (لانكشاير)، وهو ينتمي إلى أسرة من طبقة العمال، ويشترك كثيرًا مع الطالب الفقير في روايات الإصلاح في القرن التاسع عشر أكثر من أسلافه في القرن العشرين، ويشكل الموضوع الرئيس - كما كان سابقًا - تفكيك تيمة قيمة المجتمع للكاتب نيومان؛ لأنها تُظهر له التأثير السلبي في حياة المجتمع الجامعي، لأن كيمب يعيش مع( وارنر)، وهو طالب مدرسة داخلية خاصة، وينتمي إلى الطلاب المشاغبين، ويشرب كثيرًا، ويجلب النساء إلى غرفته، ولا يذاكر أبدًا؛ وفي الواقع إن جواره القسري لكيمب يسبب له الألم والعزلة؛ فهو يضيع كثيرًا من الوقت، ويشرب كثيرًا تحت تأثير وارنر، وعندما يقع في غرام (جل/جليان) الخيالية يغترب عنها، وينفر منها بفضل مساعي صديقة وارنر الحميدة، وتنتهي الرواية في عيادة الكلية بسبب الالتهاب الرئوي، بعد أن أقنعه زملاؤه الأشقياء أن يتبع (جل) لتقبيلها في الماء. وتكمن القيمة الأخلاقية للقصة في أن الحياة الجامعية لا تجلب شيئًا سوى الكوارث لــكيمب، وخاصة في عامه الأول.

وفي الرواية طالب منحة آخر مجتهد من (يوركشاير)، ويقدم لـــكيمب النصائح  والتوصيات الودية، ومعه أصبحت الصداقة أكثر فائدة ونفعًا، ومع ذلك يرسم المؤلف شخصية (وايتبرد) بمهارة؛ إذ يفتقد القبول المتوهج لـــ ( كريستوفر وارنر) الذي كان يؤثر على كيمب بطريقة ملحوظة، هنا نعود إلى موضوع الرواية الإصلاحية التي تصور ثنائية الشباب المشاغبين والشباب المجتهدين، وتظهر شخصية (وايتبرد) بوضوح في الاقتباس التالي: "كان لديه رأس صلب، غريب مثل السنجاب، ونظارات سميكة ذات إطار معدني: لقد تحدث بلهجة يوركشاير المملة التي جعلت جون (يظن خطأ) أنه كان يتمتع بروح الدعابة، استطاع جون أن يعرف من خلال ملابسه أنه ليس ميسور الحال، وتذكر عبارة من إحدى رسائل والدته، تقول: "إنها كانت تأمل في أن يكون قد كوّن بعض الأصدقاء من طبقته، وبعاصفة من السخط أدرك أنها تعني أشخاصًا مثل (وايتبرد) (22).

وتقدم الرواية موضوعًا جديدًا ومعاصرًا في العشرين صفحة الغريبة التي يسردها لاركن (بتفان) على شكل فلاشباك إلي ظروف التحاق كيمب (ابن الطبقة العاملة) بجامعة أوكسفورد في النهاية، لدرجة أن الاهتمام الذي ناله من أستاذ الأدب الإنجليزي الذي يدرك بعض إمكانياته الأكاديمية يشجعه على الدراسة أكثر؛ فقد كان يعيره كتبًا، ويقنع الناظر ووالديه أن يسمحوا له بالالتحاق بأوكسفورد.

إن العملية كلها موثقة، إن فكرة كون التعليم في أوكسفورد ميزة تستحق الصراع من أجلها جزء من الكمية الهائلة من العمل الشاق الذي قام به كيمب في عامه التمهيدي، ويوجد فعلًا فارق بين الجهد الكبير الذي بذله ليلتحق بالجامعة، والجهد الضئيل الذي كان مطلوبًا منه بعد الالتحاق بها، إن كيمب، كما ذكر من قبل، يراه الآخرون بطل الطبقة العاملة المشرد، وفي الحقيقة مع نهاية الرواية يصل إلى القارئ انطباع أنه لو ذهب إلى جامعة إقليمية، وكانت له غرفة مستقلة ، وحضر المحاضرات المختلطة والمستمرة لكان أكثر ارتياحًا، ولكان بالتأكيد أقل وحدة وغربة.

وتعد رواية (جل) بحق اتهامًا للمعالجة الرومانسية لحياة الطلاب الأوكسفوردية كما نجدها في (شارع مشؤوم) و(زيارة برايدست مرة ثانية).

1.7.7. رواية سي. بي. سنو (الأساتذة)

وشهد عام (1947م) نشر أول رواية تتعلق بجامعة كيمبردج  لتشارلز بيرسي سنو والتي تعد واحدة من سلسلته الروائية بعنوان (الغرباء والإخوة) وهي مجموعة من القصص تفتقد إلى الترابط بسبب وجود السارد (لويس إليوت) في جميع روايات السلسلة، ومن الروايات التي تتناول الحياة الجامعية في هذه المجموعة رواية (الأساتذة)، و(الرجال الجدد)، و(القضية)؛ فابستثناء الرواية البوليسية الجامعية تصنف هذه الروايات على أنها روايات الحرم الجامعي الأولى؛ لأنها كتبت من منظور البروفيسور؛ حيث عمل سنو أستاذًا في كلية (كنيسة المسيح) لمدة عشرين سنة، وتمزج خلفيات هذه الروايات بين كمية معقولة من العناصر المألوفة والتقليدية لــ (أوكسبردج) بقوة، ولكن يكمن الجديد في هوس سنو بالكتابة بوصفه أستاذًا، وبالكتابة عن موضوعات مثل: البحث العلمي، وتنظيم وإدارة الكليات، والصدام بين المشاهير داخل كلية معينة، وقضايا الترقيات، وبسط النفوذ بكافة أشكاله (وهذا ما يشغل بال الكثيرين هذه الأيام لتعويض النقص لديهم خاصة أنهم ينتمون إلى طبقات اجتماعية متوسطة)، وتحقيق أو إجهاض العدالة، ومع أن أحداث الروايات تقع في كيمبردج إلا أنها عالمية؛ لأنها تقدم بعمق دراسات تتعلق بتأثيرات الطموح، وشهوة القوة والمال، وهذا ما ستوضحه الفصول التحليلية لروايات الحرم الجامعي في الفصول التالية مباشرة.

وتعد رواية (الأساتذة) أفضل هذه الروايات الجامعية؛ لأنها ترصد المزايا والعيوب وكل التفاصيل المعقدة الخاصة بانتخاب رئيس جديد للكلية، حيث إن المرشحين مختلفان تمامًا: فالأول داهية موثوق به، ولكنه يفتقر إلي الإنسانية، والثاني ودود رحيم ولكنه مبذر. وقد اتُّهمت الرواية بضيق الأفق، ولكن سنو يقدم - بمهارة وبطريقة مثيرة - الاختلافات المتميزة للعمر والشخصية والطموح داخل الكلية، والصدامات المتوقعة بين مؤيدي كلا المرشحين، لدرجة أن القارئ لا يستطيع التوقف حتى يصل إلى صفحة النهاية، لقد أولت الرواية اهتمامًا ملحوظًا للمكان وسحره، ولكنها لم تعطِ الطلاب نفس المساحة الموجودة في الروايات السابقة، وتكشف نهاية الرواية عن انتصار روح الجامعة وشخصيتها على خيبة الأمل الشخصية؛ حيث يشرب المهزوم نخب انتصار غريمه ومنافسه في حفل التتويج والتنصيب.

هذه هي الروح الجامعية التي تتضمن كلا من الولاء والبحث المحايد عن الحقيقة، مثل الانتصار في رواية (القضية/1960)؛ حيث يتهم عالم شابًّا غير محبوب إلى حد ما بتزوير تجربة؛ ومن ثم يحرم من وظيفته، ولكنه في النهاية يعود إلى مركزه السابق، وكما هو الحال مع منافس جاغو في (الأساتذة) حيث نشعر بقليل من التعاطف مع هذه الشخصية، ولكن الأهم هنا أنه داخل سياق الجامعة تبدو الحقيقة أكثر أهمية من المصالح الذاتية.

1.7.8. وليام كوبر (كفاح ألبريت وودز)

إن روايات سنو مشبعة بجدية ساحقة، واحترام عميق للجامعة بوصفها مؤسسة، ولكن مع عام 1950م بدأت موجة جديدة من المعالجة الساخرة الهزلية الفاضحة للموضوعات الجامعية التي ما زالت تملأ الروايات ليس كما يعتقد البعض برواية إيمس (جم المحظوظ)، ولكن برواية وليام كوبر (كفاح ألبريت وودز) في 1952م، فقد ظلت هذه الرواية مغمورة، ولم تنل حظها من الدعاية والنقد، وهي تعالج عددًا من الموضوعات التي تم استغلالها في رواية (جم المحظوظ)، ولكن المشهد الجامعي الذي يتم رصده من قبل مهرج عدائي مثل (جم ديكسون) يحدث بواسطة بطل ينتمي إلى الطبقة الوسطى الأدنى، ويطلق عليه (نابليون الصغير)، وطموحه الكبير أن يذوب في الجامعة ويصل إلى المراتب العليا في مؤسساتها، يطمح البريت (المتخصص في الكيمياء) في الفترة من 1923-1945 أن يصبح أستاذًا، وفارسًا، وربما حاصلاً على جائزة نوبل، إنه يحقق الكثير من النجاحات؛ حيث يطلق على الرواية (رواية النجاح) مع أن السرد يتمتع بنبرة ساخرة، ويفضح في الوقت نفسه آليات النجاح سيئة السمعة (غالبًا): نوع من الأكاديميين ينشد الوصول إلى القمة.

ومع أن أحداث الرواية تدور في أوكسفورد لا توجد إشارة أو ذكر إلى (أبراج الحلم) في المدينة، وتتعامل الرواية حصريًا مع حياته بعد الجامعة: أولا معيدًا، وثانيًا مدرسًا، وأخيرًا أستاذًا للكيمياء.

ومن بين الموضوعات التي قدمتها رواية كوبر العلاقة بين طلاب البحوث العلمية ومشرفيهم، وبين بعضهم البعض، ويتعامل المؤلف أيضًا مع فظاظة العلاقات الخاضعة للهرمية الأكاديمية، والأنانية التي ربما تصطحب الترقية الموضوعية والظاهرية للتعلم. وعلى المنوال نفسه تُرصد ضبابية أوكسفورد بسخرية لاذعة؛ إذ يجد بطل الرواية صعوبة في الحصول على الزمالة مع أنه المرشح الوحيد؛ لأنه لم يكن خريج أوكسفورد مع أنه قد حسًّن لهجته، وأصبح لديه أسلوب أوكسفورد الإدواردية (الرواية 24).

ويقدم كوبر موضوعات أخرى جديدة منها: اهتمام البطل بقضايا البحث العلمي؛ فعندما ينجح البحث يظل الشخص ساحرًا ومنتصرًا، مرة أُخرى بما أن البطل عالم متخصص في العلوم الطبيعية لا العلوم الإنسانية فهو يقدم موضوعًا كان سنو قد لفت الأنظار إليه بعمق بعدها بعامين في روايته (الرجال الجدد) التي تتناول موضوع الانشطار الذري. والبحث العلمي قد يستخدم استخدامًا ضارًا بل مدمرًا، وما يبن ذلك أن (البريت) اكتشف عام 1939 طريقة لإنتاج كميات هائلة من غاز الأعصاب المميت الذي لا يمكن حساب آثاره التدميرية في الحروب، وإن كان هذا الغاز لم يستخدم في الحرب العالمية الثانية.

1.7.9. رواية كينغسلي إيمس (جم المحظوظ)

وفي مقال ممتع نُشر في مجلة (بونش) عام 1959 يصف (مالكولم برادبري) كيف استطاع طالب متخرج من الجامعة أن يكتب رواية عن طبيعة الحياة في جامعة إقليمية في وقت لم يكن أحد مستعدًا أن يقرأ عن هذا النوع من الجامعات، ومع ذلك يقول: "بعد أيام قليلة من هذا تغير العالم لأناس يشبهونني؛ فالسيد (إيمس) نشر رواية (جم المحظوظ) [...] إنني على الطريق الصحيح أخيرًا (27).

ونشرتْ الرواية عام (1954م) وأُهديت لـــ (فيليب لاركن)، وتعتبر أول رواية جامعية أو قد يصدق عليها إلى حد ما تسميتها برواية (الجامعة الضدِّ)، وقد نالت الرواية عشرات الانطباعات في عامها الأول. يشبه البطل (جم ديكسون)، صاحب اللهجة الشمالية ألبريت وودز، فقد كان محاضرًا صغيرًا في قسم تاريخ العصور الوسطي في جامعة ريدبرك، إنَّ أوغاد هذا العمل هم البروفيسور وزوجه وزميلة العمل العنيدة التي تستغل حسن محياه لتجبره على علاقة معها. تُقدم الرواية من منظور أعضاء هيئة التدريس مع أنها لم تتجاهل علاقة الأساتذة والطلاب، ويعاني بطل الرواية (جم ديكسون) كثيرًا من الآفات كشرب الخمر، ويقوم بأعمال مضحكة، ويقلد الناس، وينجرف إلى وظيفة لا يقتنع بها اقتناعًا حقيقيًا، ولكن على خلاف الكثيرين ممن حوله فهو (على الأقل) أمين مع نفسه في حديثها عنها، وبعيد كل البعد عن الغرور والتباهي اللذين يمتاز بهما أستاذه: إن ديكسون يتجنب دائمًا (خداع الذات).

وتشبه الرواية (روايات الشطار) في نهايتها السعيدة (رواية توم جونز أنموذجًا)؛ لأن (جم)، بعدما طُرد من الجامعة بسبب محاضرته الكارثية وهو مخمور، يعمل سكرتيرًا لأحد الأغنياء القدامى متقدي الذهن، ومع أن جزءًا كبيرًا من الرواية يعالج تحليل جم وعلاقته مع رئيسه واثنتين من النساء؛ فهي تكشف داخل سياقاتها المتعددة الكثير من الموضوعات الجامعية المحددة؛ حيث يتذوق جوانبها الساخرة القراءُ الذين خبروا الحياة الجامعية، فالأستاذ (ولش) - على سبيل المثال - رمز للغطرسة والكبرياء والحذلقة الأكاديمية (الرواية 29)؛ فهو يعزف البيانو، وينظم الحفلات الفنية في العطلات الأسبوعية، ودائمًا ما يجعل (جم) يشعر بهشاشته الأكاديمية؛ إذ يحثّه مرارًا وتكرارًا أن ينشر مقالًا راقيًا أو يعطي محاضرة عامة، ولكن تواجه (جم) صعوبة في القيام بذلك، ويعبر عن ذلك بأمانته المعهودة قائلاً: "لقد اخترت أن أتخصص في تاريخ العصور الوسطى - كما تسميها - لأن أبحاث العصور الوسطى هي الأسهل في جامعة ليستر" (الرواية 30). لقد سخر إيمس سخرية رائعة من المستوى العلمي لبعض الأكاديميين وخاصة الأستاذ ولش الأرستقراطي.

ومن الأفكار الأكاديمية المهيمنة على الرواية فكرة (المقرر الخاص) الذي كان على جم تدريسه، وفي هذا المقرر يتحرش أحد الطلاب المتحمسين به؛ فبعيدًا عن عدم رغبته في تدريس هذا المقرر تسيطر على جم هوس الخوف من أن يسجل عدد كبير من الطلاب للمقرر أكثر من بروف ولش، وهذا أمر يهدد بقاءه على قيد الحياة، ويوجد أيضًا -كما هو الحال في رواية (جِل)- إشارات إلى بعض المشاكل المعاصرة المحددة: تعليق أحد الزملاء على نظام القبول في الجامعة، والحاجة إلى السماح بتمرير الطلاب المتوسطين بسبب نقص المدرسين، ومما لا شك فيه أن إيمس قد فجر العديد من الأساطير الأكاديمية.

1.7.10. رواية أنجوس ويلسون (مواقف أنجلوسكسونية)

وفي عام (1956) نشر أنجوس ويلسون رواية (مواقف أنجلوسكسونية)، التي لا تدور أحداثها داخل الجامعة ولكن شخصياتها تمثل عددًا من الأكاديميين المتقاعدين  أو المجتهدين كما هو الحال مع رواية سنو (القضية)، تناقش الرواية موضوع النزاهة الأكاديمية والبحث عن الحقيقة؛ بطل الرواية (جيرالد ميدلتون: خريج جامعة أوكسفورد، متخصص في تاريخ العصور الوسطى) يسيطر عليه هاجس هو أن أحد الاكتشافات الأثرية كان خدعة كبيرة، ولكن مع نهاية الرواية تعود الأمور إلي نصابها الطبيعي.

1.7.11. روايات جي. آي. إم. ستيوارت

منذ عام 1950م استمرت روايات ستيورات الأكاديمية في تصوير فكر أو عقيدة أكسفورد (إلى حد معين)، وفي رواية (الوصاة) وبعض الروايات الأخرى عولجت الموضوعات الأكاديمية معالجة سريعة خاطفة، رواية (مملكة فاندرلين/1967) التي تتناول بعض فصولها زيارة أحد الأثرياء الأمريكان إلى جامعة أوكسفورد من أجل التبرع وتقديم المنح والهبات، وتصف جمال الهندسة المعمارية في أوكسفورد وصف أخاذًا مؤثرًا، وفي ليلة قمرية في مساكن الجامعة يقابل الميليونير الأمريكي (فاندرلين) شابًا، وتنشأ بينهما علاقة تمثل التيمة الرئيسة للرواية، وتذكرنا رواية (الأوصياء/1955) برواية (أوراق أسبر)، وتعد محاولة لانتهاج أسلوب جيمس جويس، وتعالج الرواية مدى استحواذ الجامعة على الوثائق الأدبية للبحث في وقت لاحق، وتكتشف بطريقة ممتعة اختلاف الأمزجة الأكاديمية بين انجلترا وأمريكا، والإستراتيجيات التي تحفظ بها هذه الوثائق في النهاية في أوكسفورد.

وفي رواية ستيوارت (حلم مانجو/1973) يحي المؤلف النمط الروائي الذي يعبر عن قيمة المجتمع الأكسفوردي في نظر الخريجين، ويضيف إلى ذلك بعض النكهات المعاصرة مثل الإشارة إلى المظاهرات واعتصامات الطلاب. وفي ضوء البهجة الواضحة التي يشعر بها في المدينة والجامعة والتي كانت بمثابة بيته لأكثر من ثلاثين عامًا ليس من المدهش أن يخلق ستيوارت لأوكسفورد شيئًا مماثلًا لما فعله سنو لتأريخ كمبردج، وفي 1974م نشر ستيوارت أول مجلد من سلسلته المعروفة بــ(خريج من صاري) باسم (المهرج)، في هذا الكتاب يستخدم المؤلف مناسبة عشاء الأعضاء القدامى السنوي في كلية صاري نقطةً للرحيل في القصة، ويستخدم السارد (دنكان باتولو) أسلوب (الفلاشباك) وضمير المتكلم غالبًا لحياته الخاصة في أيام الجامعة وما بعدها، وكذلك ما يخص زملاءه الذين التحقوا بأوكسفورد في العام نفسه.

إن البطل الحقيقي هو الجامعة نفسها التي تدعو طلابها إلى مجموعة من القيم والمثل التي تؤثر على حياتهم العملية، إنها بمثابة الروح القدس التي يعودون إليها دومًا، ويصبح السارد مدرسًا، ويحضر زملاؤه السابقون المهرجانات والمؤتمرات أو يفرزون مشاكل أبنائهم الخريجين.  

المجلد الثاني (باتولو الشاب/1975) رواية تثير الذكريات، وتعج بالموضوعات التقليدية لرؤية الرواية الأوكسفوردية: المناقشات الفلسفية مع تناول الشاي، والتجديف في نهر التيمز، وهلم جرا، ولكنها أيضًا تحتوي على موضوعات لاكتشافات مقنعة لعلم النفس مرتبطة بــغرام المراهقة وهو حب سريع الزوال، والتجاذب الجنسي بالإضافة إلى بعض الدراسات المباشرة الخاصة بعلاقات الأساتذة والخريجين؛ فعلى العكس يتم سرد رواية (خدمة تذكارية/1976) من نظر الأستاذ؛ لأن السارد/باتولو أصبح عضو هيئة تدريس في صاري، ومن ثم تقدم الرواية عددًا من الموضوعات الجديدة؛ فبوصفه عضو هيئة تدريس أصبح باتولو على دراية بالمشاكل الاقتصادية والإدارية للكلية.

وفي الواقع تنشأ بعض الحلقات الرئيسة في الكتاب بسبب إصرار (بروفوست) على الحصول على معونة أو تبرع من مليونير تخرج من صاري، ومن سوء حظه كان له حفيد شائن مخز طرد من الجامعة بسبب سلوكه، ويلعب سلوك الطلاب دورًا بارزًا في هذه الرواية، وما يميز هذه الرواية هو أن المؤلف يسلط الضوء على مستويات مختلفة للحياة الجامعية. إن باتولو نسخة أكثر تفاؤلا من شخصية لاركن (جون كيمب)، وهو طالب من الأقاليم، يتسم بالذكاء وقلة الاحترام، ويقرر ألا يظل مغمورًا بسبب عقدة أوكسفورد، ودائمًا ما يقارن بـــ (كيمب) الذي يتسم بالإفراط في تحري الاستقامة، والذي ينتحر بعد أن تأكد فشله في جميع الاختبارات، وإدمانه للخمر بعد أن وقع ضحية للطلاب المشاغبين.

وفي المجلد الثالث تقوم الجامعة ببعض التغيرات الطفيفة، كما كان الحال سابقًا، من أجل هذه المأساة؛ وذلك بجعل السارد يأخذ اهتمامًا خاصًا بولد هذا الأخ الذي يستطيع الوصول إلى أوكسفورد، ويناقش المجلد الرابع بعنوان (عذراء أستروليب/1977)، هو عبارة عن صورة إيطالية تم اكتشافها في الكلية، مسألة المال، وعلاقة السارد بزميلته، وتواصل رصد الأنشطة الطلابية في فترة السبعينيات. ويقدم المجلد الأخير في السلسلة (فصل كامل/1978) موضوعًا معاصرًا للغاية، بالإضافة إلي اجتهاده في تقديم سلسلة من النهايات المفككة بخصوص حياة السارد العاطفية، وكشف النقاب عن بعض من تاريخ العائلة القديم: يعمل أحد أعضاء هيئة التدريس وهو متخصص في الفيزياء النووية في صاري جاسوسًا لحساب روسيا، ويتم اكتشاف هذا اللغز بطريقة مرضية، وتمكن المؤلف من السخرية الرقيقة  من تقاليد الجامعة التي يكتب عنها، بطريقة أخرى في هذه السلسلة تم تقديم عددٍ من الموضوعات: إدارة الكلية، وحياة الأساتذة وزوجاتهن وأعمالهم المختلفة، والعلاقات بين أعضاء هيئة التدريس، وعلاقات الذكور والإناث، والطلاب، وآليات الالتحاق بالجامعة، وحياة المجتمع الجامعي، والخ.

1.7.12. ثلاثية ملكلوم برادبري

يعد ملكولم برادبري من الكتاب المعاصرين الأكثر اهتمامًا بهذا النوع الأدبي الجديد؛ فقد كان أستاذًا للدراسات الإنجليزية والأمريكية في جامعة إيست إنجيليا، وقد بدأ في كتابة روايته الأكاديمية الأولى (أكل الناس حرام/1959) عندما نشر إيمس روايته (جم المحظوظ). بتأنٍ وبتروٍ بدأ إيمس قصته الهزلية منطلقًا من مهنته الأكاديمية ومستخدمًا ذكاءه بوصفه مشاهدًا ذا مشاعر معادية تجاه أستاذه المتحذلق الذي يرى أنه سبب متاعبه في الحياة الجامعية، وعلى العكس من ذلك نجد برادبري خريج جامعة ريدبرك نفسه يهدف إلى كتابة رواية واقعية عن انجلترا في فترة الخمسينيات في جامعة إقليمية من منظور أستاذ للأدب الإنجليزي الذي يتسم بالليبرالية واستبطان النفس، (ستيوارت تريس) الذي كاد يتراجع عن محاولته أن يكون موضوعيًا عادلًا في تقييمه، وبالتحديد بسبب روح العدل عنده. يفشل غالبًا في ترويض الناس، ويفسد المواقف بطريقة كوميدية جدًا. إن هذه الرواية تعد النسخة الأصلية في تاريخ الرواية الجامعية؛ لأنه كتبها طالب ولكن من منظور الأستاذ.

وتجمع رواية (أكل الناس حرام) موضوعات مألوفة في الروايات الجامعية السابقة والجديدة بطريقة مسلية وفريدة، وبالرغم من مشاهدها الفكاهية الهزلية فإننا نقرأ أول محاولة جادة للتعامل بواقعية مع الحياة في جامعة إقليمية، وعلى الرغم من أن القصة من منظور أستاذ جامعي فإنها تهتم بالعلاقة بين الطالب والأستاذ (حتى في الجامعات الإقليمية مثل ريدبرك توجد ساعات مكتبية)، كما تهتم بالعلاقات بين الأساتذة. وتبدو النساء، سواء كن أكاديميات أو طالبات، بوصفهن متساويات في الفكر مع الرجال وهو أمر لا نعرف له نظيرًا سابقًا، والعلاقات الغرامية معهن تمت نتيجة طبيعية لاجتماع الجنسين معًا في مهنة واحدة، وتقدم الأنشطة اليومية المبتذلة إلي حد ما التي تشغل حيزًا كبيرًا من حيوات الأكاديميين بطريقة تفصيلية مقنعة ومباشرة: اجتماعات أعضاء هيئة التدريس والأساتذة الزائرين، وحفلات الشاي حيث يتحاور الأكاديميون بطريقة غامضة غير مفهومة، وخجل الطلاب من الأساتذة، وارتباك الأساتذة في محاولتهم الفاشلة أن يسلكوا مسلكًا طبيعيًا مألوفًا، وتبدو هذه الحفلات أحيانًا قبيحة مؤلمة جدًا عندما يحاول الأساتذة والطلاب أن يكونوا مؤدبين مع الطلاب الأجانب/الكومنولث.

وكما رأينا في روايات إيمس تنتصر روح الجامعة في النهاية على الإخفاقات والزلات البشرية، وهذا ما يبرر وجود الجامعة، وبما أن لب الموضوع هو ليبرالية ستيوارت وأمانته ورغبته في تحقيق العدل، يجد نفسه مجبرًا على غزو كراهيته تجاه تلميذه المشاكس (لويس بيت)، وهو يذهب بعيدًا في هذا الاتجاه لدرجة أنه يحاول أن يشجع هذا الطالب على إقامة علاقة غرامية مع طالبة الدراسات العليا (إيما فيلدنج) التي يقاسمه ويشاركه حبها، كأنما يعاقب نفسه بذلك. ويستخدم برادبري، مثل سنو، يستخدم السياق الذي يعرفه جيدًا، ليحلل ويصور نوعًا من الشخصيات الليبرالية، التي تحاول—في عالم شديد الخشونة والصعوبة—أن تتمسك بالقيم التقليدية التي آمن بها فورستر.

ويتكرر الموضوع نفسه بطريقة أكثر واقعية في رواية برادبري الثانية (الاتجاه غربًا)، إذ تتضمن إبداعًا جديدًا، هو المقارنة الضمنية بين الجامعات البريطانية والأمريكية، وذلك من خلال عدسة (جيمز ووكر) وهو كاتب بريطاني يتلقى دعوة لتدريس مقرر (الكتابة الإبداعية) في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة ميدل ويسترن الأمريكية. وتصنف هذه الرواية على أنها عن القضايا الجامعية وشهوة السلطة، وتشبه رواية (الأساتذة) لأنه منذ وصول ووكر البدين البليد يصبح حجرًا للشطرنج (أحد الضحايا الُمدَمرة)؛ حيث يحركه برنارد فروليك (أستاذ أمريكي يتسم بالحيوية والبحث عن الذات) كما يشاء، ومع ذلك تتطلب القضايا الجامعية في (الاتجاه غربًا) حماية قومية وسياسية؛ إذ يبلغ الأمر ذروته عندما يرفض ووكر توقيع وثيقة الولاء للحكومة الأمريكية بإيعاز من اليهودي فروليك، وهذا بدوره يثير مشاكل عدة داخل وخارج الجامعة؛ حيث يستقيل رئيس القسم، ويحل مكانه فروليك.

إن محور الرواية هو الطموح كما هو الحال مع (الأساتذة)، ولكن سنو يجعلنا نشعر بأن الأمر يستحق كل هذا الصراع وكل هذه المعاناة؛ لأن ووكر يقلع مع أول طائرة إلي بلده، وكما هو الحال في رواية (أكل الناس حرام) يقدم برادبري تيمته الرئيسة بطريقة مسلية عن طريق مجموعة من الموضوعات الجامعية الأمريكية المساندة كما يراها رجل إنجليزي، تصور الأنشطة الأكاديمية والاجتماعية بسخرية، وتعالج علاقة الأستاذ والطالب معالجة فنية فكهة.

وتهتم الرواية بحياة وأنشطة الأستاذ الدكتور هوارد كيرك، وهو عالم اجتماع يعمل في جامعة جديدة، رجل نشيط ذكي مشرق شاب، يكتب في مجالات متعددة، ويظهر على التلفاز كثيرًا، وتعتبر جامعته حلمًا واسعًا، في مبانٍ خرسانية وزجاجية، تفتقد المعايير العالمية، صممها كاكينن، هو مهندس فلندي طليعي؛ وهنا يلقي كيرك محاضراته عن الثورات؛ لأن الجامعة صاحبة الأفكار الطامحة قد استفادت كثيرًا من علم الاجتماع.

إنه رجل عنيف طموح عصري، ذو سلوك جنسي منحل، يلين مع من هم فوقه، ويشتد مع من هم دونه، ومن بين ضحايا أنانيته زوجته التي تبدو في الظاهر عصرية تساير الموضة مثله تمامًا، ولكنها مع نهاية الرواية تنتحر أو تحاول الانتحار، وتلميذه الذي يدعى (كارمودي) الذي يكرهه هوارد كرهًا جائرًا، على عكس ستيوارت الذي تدفعه غريزته للإيثار والتضحية باهتماماته الخاصة ليدعم تلميذه (بيْتس) المشاكس، يخذل هوارد تلميذه في الواقع لأنه لم يكن مسايرًا للموضة إلى الحد الذي يرضي هوارد؛ لذا يسعى كارمودي للانتقام؛ لأن الشر يولد الشر عن طريق الاستغلال، ولكنه في النهاية ضحية لشخصية هوارد العنيف شديد الثقة بنفسه. وقد صارت المحاضرة الذكية التي قامت بالدفاع عنه عشيقة لهوراد.

وباختصار تعد هذه الرواية في المقام الأول تصويرًا لما يحدثه هذا الجزار من فساد في الجامعة، وفي المجتمع عمومًا، ولكن المجتمع لا يعاقبه، بل يشجعه ويدعمه. وتعد في المقام الثاني رواية جامعية؛ لأن الجامعة هي الساحة التي اتخذها هوارد لممارسة أنشطته. مع أن هوارد يمكن تخيله في سياق آخر، كــعالم رجال الأعمال الكبار أو رجال الصناعة، وقد يلاحظ الفرد أن برادبري هنا يؤكد التعاطف الخاص الموجود ليس فقط بين شخصية هوارد العصرية النشطة والراضية عن نفسها، وهذا الجانب الذي يعيش فيه من المدينة، حيث المتاجر الكبيرة والشقق الغالية ومواقف السيارات متعددة الأدوار، ولكن أيضًا بينه وبين الجامعة الجديدة نفسها، وتبدو هذه الرواية بعيدة كل البعد عن الأبراج التي تحلم بها رواية (شارع مشؤوم) أو (أطول رحلة).

1.7.13. ديفيد لودج: (تبادل الأماكن أو حكاية حرمين جامعيين)

نشر الأكاديمي الروائي الناقد (ديفيد لودج) روايته (تبادل الأماكن) في العام نفسه الذي ظهرت فيه رواية (رجل التاريخ)، وعلى العكس من (الاتجاه غربًا) التي تقدم لنا الجامعة الأمريكية من منظور رجل إنجليزي؛ فإن (تبادل الأماكن) التي كتبت بأسلوب ساخر تشير إلى الجامعة الإنجليزية والأمريكية من منظور أستاذين للأدب الإنجليزي وهما يتبادلان الأماكن لمدة ستة أشهر، وتنتهي ليس فقط  بتبادل الغرف والطلاب وإنما بتبادل الزوجات أيضًا، إنها حبكة واعدة تصور تصويرًا ساخرًا شخصيات متناقضة تنتمي إلي جامعتين على جانبي المحيط، والرواية شائقة أيضًا على المستوى الفني، كما أنها تتضمن رصدًا لحقيقة مهمة هي: إن سلوك الإنسان تتحكم فيه البيئة المحيطة والناس الذين يتعاملون معه.


عدد القراء: 1667

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-