بلاغة العلم بين اكتشاف المعرفة وتدوينهاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 12:36:58

د. عادل الثامري

العراق

يشير مصطلح "بلاغة العلم" إلى عمل أولئك الذين يدرسون العلم من منظور بلاغي. هذه الأدبيات منتشرة في عدة تخصصات مثل التواصل بالكلام او الكتابة واللغات وعلم الاجتماع والتاريخ وفلسفة العلوم. وتستكشف هذه الأدبيات العلمية فكرة أن ممارسة العلم هي فعالية بلاغية.  والهدف العام لمشروع بلاغة العلم هو إظهار أن الممارسات الخطابية للعلم، الداخلية منها والخارجية، تشتمل على عنصر بلاغي. حيث يشير مصطلح الممارسات الخطابية الداخلية إلى تلك الممارسات الخطابية الداخلية لمجتمع لغة علمية معين.  اما مصطلح الممارسات الخطابية الخارجية فيشير إلى الممارسات الخطابية لمجتمع لغة علمية في تعامله مع مجتمع لغة علمية آخر.

لقد ازدهرت بلاغة العلم باعتبارها مجالاً يشترك فيه البلاغيون منذ سبعينيات القرن الماضي. وساهم هذا الازدهار في تغيير في صورة العلم في حينها. يتضمن المنهج المحافظ لبلاغة العلم التعامل مع النصوص على أنها اتصالات مصممة لإقناع أعضاء مجتمعات العلم. وهذا المنهج يتعلق بالادعاءات العلمية التي تعتبر صحيحة بفعل الأبحاث العلمية وليس بفعل العملية البلاغية. من ناحية أخرى، فإن المنهج الأكثر راديكالية يتعامل مع هذه النصوص نفسها كما لو أن العلم الموجود فيها هو أيضا موضوع بحث بلاغي. 

يبدأ تاريخ بلاغة العلم مع كتاب توماس كوهن، بنية الثورات العلمية (1962).  حيث درس العلم الأول، وهو ممارسة روتينية ومنمقة ويمكن الوصول إليها باستخدام طريقة محددة لحل المشكلات. بناءً على المعرفة السابقة، يتقدم العلم الاعتيادي من خلال التراكمات في قاعدة المعرفة. ثم يقارن كوهن بين العلم الاعتيادي والعلم الثوري وهو علم رائد يحقق تحول ابدالي في الفكر. عندما بدأ كوهن في تدريس النصوص التاريخية لجامعة هارفارد، مثل كتابات أرسطو عن الحركة، تطلع إلى دراسات الحالة، وسعى أولاً إلى فهم أرسطو في وقته، ثم تحديد موقع مشاكله وحلولها ضمن سياق أوسع للفكر المعاصر.  وهذا يعني أن كوهن سعى أولاً إلى فهم تقاليد العلم وممارساته الراسخة. من خلال ملاحظة التغييرات في الفكر والممارسات العلمية، خلص كوهن إلى أن التغييرات الثورية تحدث من خلال المفهوم المحدد للبلاغة: يُظهر الإقناع والأعمال اللاحقة أن بنية كوهن بلاغية بالكامل.

إذا ما تمعنا في أدبيات بلاغة العلم، سنجد ان الدراسات البلاغية للعلوم تتناول الموضوعات التالية:

(ا) كيف وبأي تأثير يجعل العلم في متناول الجمهور العام من خلال الترويج.

(ب) كيف وبأي تأثير يتدخل العلم في المداولات واتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة العامة.

 (ج) كيف ولماذا ينأى العلم بنفسه عما يعتبره غير علمي أو علم زائف.

(د) كيف ولماذا وبأي تأثير تترجم نتائج تخصص ما بشكل تناظري إلى مقدمات تخصص آخر، على سبيل المثال، استعمال نتائج من علم الأحياء في مقدمات علم الأحياء الاجتماعي.

(ه‍) كيف تتكشف الخلافات العلمية التي تنطوي على اختيار نظرية أو تحول ابدالي معين وكيف يتم التعامل معها من حيث المعايير والموارد والممارسات الداخلية لمجتمع علمي معين. هذه القائمة من أنواع الدراسات ليست شاملة، الا انها تبين مدى اتساع نطاق بلاغة العلم. 

 تعرف البلاغة بأنها تخصص يدرس وسائل الإقناع وغاياته. وينظر الى العلم على أنه اكتشاف وتدوين المعرفة حول العالم الطبيعي. الخلاف الرئيسي في بلاغة العلم هو أن ممارسة العلم هي ذات طبيعة اقناعية. تتناول دراسة العلم من وجهة النظر هذه طرق البحث، والمنطق، والحجج، وأخلاقيات ممارسي العلم، وبنى منشورات العلوم، وطبيعة الخطاب العلمي والمناقشات العلمية. ينبغي للعلماء مثلاً أن يقنعوا مجتمعهم من العلماء بأن أبحاثهم تقوم على أسس علمية سليمة. تتضمن المنهجية العلمية من المنظور البلاغي مواضيع حل المشكلات (مواد الخطاب) التي تُظهر كفاءة الملاحظة والكفاءة التجريبية (ترتيب أو تنظيم الخطاب أو المنهج)، وكوسيلة للإقناع، تقدم قدرة تفسيرية وتنبؤية. ان الكفاءة التجريبية في حد ذاتها صفة اقناعية. وبلاغة العلم هي ممارسة الإقناع وهي ثمرة بعض شرائع وسنن البلاغة.  إن ما نعلم بوجوده في العالم هو نتاج مجموعة متطورة من الاتفاقات أو المواضعات الإنسانية. وبالتالي، قد يوجد عدد من التأويلات المتضاربة للواقع في المجتمع. وهذا يخلق مشاكل لأفراد المجتمع الذين لديهم مصلحة أو اهتمام خاص في إحدى هذه التأويلات دون غيرها. واستنادًا لذلك، يطور كل مجتمع القواعد التي يمكن من خلالها إضفاء الشرعية على نسخة واحدة من الواقع ودحض مصداقية النسخ الأخرى المتنافسة، لأن معرفة أن الواقع هو بناء بشري من شأنه أن يفسد النظام الاجتماعي الذي يتم تأمينه من خلال تأويل محدد. يعبّر إريك غود Eric Goode عن هذه النقطة بالقول: "يجب أن يُنظر إلى وجهة النظر الوحيدة المختارة للعالم على أنها وجهة النظر الوحيدة الممكنة للعالم؛ ويجب أن تتطابق مع العالم الواقعي. ويجب اعتبار جميع نسخ الواقع الأخرى على أنها نزوة وتعسفية وخاطئة.

  إن الناقد البلاغي ملزم بأن يهتم بالعلم: كيف يتم استخدامه في النقاش؛ وكيف يرتبط بمصادر المعلومات الأخرى؛ وما يحدث عندما تكون هناك أدلة علمية متضاربة.  وهذا يتعلق بالجهود التي يبذلها العلماء لإقناع بعضهم البعض. لقد صممت مقترحات المنح والابحاث وأوراق المؤتمرات لتمتلك التأثير على الجمهور المحترف مثل الوكالات المانحة ومحرري المجلات وغيرهم. من أجل أن يكون العالم ناجحًا، يجب أن يقنع هذا الجمهور بأن موضوع البحث يستحق الدراسة، وقد تم استخدام الأدوات المناسبة بشكل صحيح، وأن الباحث يعرف ما يفعله.

تتشكل أدبيات بلاغة العلم من نوعين من الدراسات: المقالات العامة ودراسات الحالة. تشرح المقالة العامة إن بلاغة العلم هي مشروع علمي من خلال تحديد شروط إمكانية تحقق ذلك من خلال تقديم أساس منطقي ومن خلال تحديد برامج ومسارات البحث، ومن خلال وصف موقعه بالنسبة إلى التقاليد السائدة في دراسات العلوم. أما دراسات الحالة فهي عادة ما تتناول بعض الحلقات المنظمة (على سبيل المثال، الجدل) أو بعض الأبعاد المحددة (على سبيل المثال، الكتابة) من الممارسة العلمية وتحللها من منظور بلاغي.

 يرتبط هذان النوعان من الدراسات مع بعضهما البعض ارتباطا وثيقًا. عادة ما تنتهي المقالات العامة بالدعوة إلى مزيد من دراسات الحالة لأن هذه الأخيرة يمكن أن تكشف من خلال إعادة الوصف التأويلي عن وجود البلاغة في العلم.  ومع ذلك، تُظهر دراسات الحالة نفسها قلقًا بشأن إعادة وصف ممارسة علمية أو أداة علمية معينة باعتبارها أمثلة على البلاغة لئلا تتحول إعادة الوصف هذه إلى مهمة عبثية لا طائل منه.

عمومًا، هناك ثلاث استراتيجيات أساسية في أدبيات بلاغة العلم وهي الاستراتيجية المجتمعية، والاستراتيجية المعرفية، والاستراتيجية الابتكارية. تركز الاستراتيجية الأولى على الطابع المجتمعي للعلم وتبرز مفهوم البلاغة على أنه "موجود ومعالج". وتركز الاستراتيجية الثانية على الحالة المعرفية المنقحة للعلم في إطار ما بعد الوضعية وتبرز البلاغة باعتبارها نشاطًا عقليًا وبعبارة أدق باعتبارها "حجة".  في حين تركز الاستراتيجية الثالثة على البعد البلاغي لإنتاج المعرفة في العلوم وتبرز مفهوم البلاغة باعتبارها نظاما ابتكاريا لبناء ادعاءات المعرفة باعتبارها مفهومة اجتماعيا. على الرغم من أن جميع الاستراتيجيات الثلاث موضحة في معظم المقالات، عادة ما تمنح إحداها الأفضلية في المقالات.


عدد القراء: 3303

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-