المفكرون الغربيون المسلمون وتطوير الفكر الإسلاميالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 21:35:56

د. عبد الإله حاجي

جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس، المغرب

ساهم المفكرون الغربيون المسلمون في تقديم رؤية حضارية لعلاقة الإسلام بالغرب وطوروا رؤية الخطاب الإسلامي للحضارة الغربية والذي يطبعه النقد والرفض، كما ساهموا في تحسين الصورة النمطية التي ترسخت في عقول كثير من الغربيين بحكم احتكاكهم الإيجابي مع المجتمع ودرايتهم بثقافته وكذا بكشف حقيقة الإسلام وإبداعاته الحضارية للإنسانية كافة. فهم أسسوا بفكرهم الجديد لعلاقات مستقبلية إيجابية بين الإسلام والغرب.

لا شك أن فئة المفكرين الغربيين المسلمين في أوروبا تلعب دورًا كبيرًا في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية في الغرب. فكتاباتهم تحظى باهتمام الجاليات الإسلامية والمجتمعات الغربية التي تبحث في ظاهرة اعتناق الإسلام، لكون هؤلاء المفكرين الغربيين المسلمين لهم دراية وإلمام واسع بالثقافة والمجتمع والتاريخ الغربي، فهم ولدوا ونشأوا في أحضان هذا المجتمع. وإنتاجاتهم الفكرية لها تأثير كبير على المسلمين، لأن هؤلاء المفكرين هم غربيون من جهة ومسلمون من جهة أخرى، لهذا تشكل هذه الإنتاجات والأعمال أرضية خصبة ومنطلقًا للرد على الغرب في افترائه على الإسلام وتشويهه للمسلمين خصوصا أنها دونت وألفت بلغات أوروبية فصيحة. كما أن لها تأثير على غير المسلمين بالاتصال بهم ومحاورتهم عن الإسلام وشرح مبادئه بالأسلوب المناسب، وتبيان مصادر فهمهم للإسلام، والرد على ما عندهم من إشكاليات وشبهات حوله. فالأعمال التي قدمها هؤلاء المثقفون أمثال مراد هوفمان، ومحمد أسد وروجي غارودي وغيرهم تشكل إجابات عن كل ما يتعلق بالحضارة والثقافة الغربية والديانة المسيحية. 

إن ما يميز هذه الفئة من المثقفين الغربيين المسلمين، أنهم يجمعون بين معرفة الديانة المسيحية التي ولدوا وترعرعوا في حضنها وبين معرفة الإسلام الذي اهتدوا إليه بعد دراسة عميقة، فتفقهوا في عقيدته وشريعته بعد اهتدائهم. فنقدهم المسيحية مبني أساسًا على معرفة دقيقة لتركيبها ومخالطة لدعاتها ومبشريها، فلهم دراية واسعة بالمغالطات والتناقضات التي تكتنفها والتحريف الذي طال كتبها. فبنقدهم المسيحية وتفنيدها وإثبات أنها غير جديرة بالاعتقاد، يحاول هؤلاء المفكرون دعوة غير المسلمين لاعتناق الإسلام وتغيير دينهم. ومن ثم، أصبح هذا الجدل خدمة للدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي خصوصًا.

أضحت إنتاجات هؤلاء يقتبس منها من طرف الكتاب والمفكرين المسلمين في حديثهم عن الغرب وعن العلاقة المتبادلة بين الإسلام والغرب. فأغنت الفكر الإسلامي من جهة وساهمت من جهة أخرى -بشكل كبير- في إنشاء وتشكيل الإسلام الأوروبي. فهم يحملون رؤى فكرية إسلامية مختلفة ساهمت في تطوير الفكر الإسلامي، فهم عملوا على قراءة النص الديني قراءة مغايرة من خلال جهودهم في إعادة تفسير القرآن الكريم، وإعطاء فهم مغاير للسيرة النبوية. وبذلك فهم يقدمون إسلاما بديلاً للغربيين مقبولاً في بيئتهم الثقافية الغربية.

فهذا الفكر يمزج بين الإسلام وبين معطيات الثقافة الغربية ومن ثم يمكن وصفه بأنه أدب إسلامي غربي. وقد أصبح الاهتمام بهذا الأدب الإسلامي الجديد لا يقتصر فقط على أوروبا والغرب، بل امتد إلى مختلف أنحاء العالم، خصوصًا العالم الإسلامي، الذي أضحت خزائنه زاخرة بإنتاجات هؤلاء المفكرين.

إن القارئ المسلم الواعي لكتب وأعمال المفكرين الغربيين المسلمين، قد يوافقهم في كثير مما تتضمنه كتبهم هذه، وقد يخالفهم الرأي في كثير من الآراء والاقتراحات التي وضعوها لتطوير الفكر الإسلامي ولخدمة الإسلام. ففهمهم لبعض القيم والتوجيهات والمبادئ الإسلامية قد يجانب الصواب لعدم الإحاطة بكثير من الحقائق الدقيقة الإسلامية التي قد تغيب عنهم، أو لعدم إلمامهم ببعض الجوانب الفقهية، وقد التمس البعض لهم العذر فيما لم يحالفهم فيه التوفيق وشهدوا بإخلاصهم في دعوتهم للإسلام والدفاع عنه. فيما شكك الآخرون في إسلام بعضهم واعترضوا على كتاباتهم وهذا ما سنتطرق له لاحقًا.

نجد من بين هؤلاء المفكرين من ذاع صيتهم واشتهروا على المستوى العالمي حتى قبل إسلامهم، كالفرنسي روجي غارودي Roger Garaudy والنمساوي محمد أسد والسفير الألماني مراد هوفمان Murad Hofman  ، والكاتبة الأمريكية مريم جميلة، والطبيب الفرنسي موريس بوكاي Maurice Bucaille، والسياسي الإنجليزي ديفيد بيدكوك Pidcock David والرسام الفرنسي العالمي نصر الدين دينيه (Alphonse Etienne Dinet) والفيلسوف الصوفي الفرنسي عبد الواحد يحيى غينو (René Guénon) والصحفي السويسري روجي دي باسكييه (Roger du Pasquier) والداعية الإنجليزي يوسف إسلام (Cat Stevens) والدبلوماسي الإنجليزي غي إيتون (Gai Eaton). وهذه الفئة التي ذاع صيتها في أرجاء المعمور، ترجمت أعمالها إلى عدة لغات عالمية، ساهمت في إشعاع صورتهم.

هناك أيضا مفكرون محليون اقتصرت شهرتهم على بلدانهم، كالفيلسوف الأمريكي ألكسندر رسل وب (Alexander Russel Webb)، الذي أسلم بعد أن أصبح قنصلاً لبلاده في الفلبين سنة 1887، وهي فرصة منحت له الاتصال لأول مرة بالمسلمين، فبهرته عظمة الإسلام وتسمى بـ"محمد"1. وكذلك عالم الأديان الإنجليزي الدكتور خالد شلدريك Khalid Sheldrake، والإنجليزي مارمادوك بكثوك (Mermadjok Pikthuck) والأمريكي دانيال مور (Daniel Moore) وعالم اللاهوت السويسري هانز كونج (Hans kung) ويوسف أستس الأمريكي الذي كان قسًّا، والدكتور الأمريكي روبرت كرين (D. Robert Crane) الذي تسمى بفاروق عبدالحق والإنجليزي مارتن لنجز (Martin Lings) والكاتبة جميلة جونز (Jones) وعالم الرياضيات الأمريكي جفري لانغ (Jeffrey Lang) وغيرهم.

إن المفكرين الغربين المسلمين، يعبرون عن ذواتهم بحرية مستغلين حقهم في إبداء الرأي وحرية التعبير التي تكفلها الدساتير الغربية. فوجودهم في بلدانهم وجود حضاري فاعل، إذ ينشغلون بأمور ذات أهمية كبيرة. كما يساهمون في تقديم رؤية حضارية لعلاقات الإسلام بالغرب ويطورون رؤية الخطاب الإسلامي للحضارة الغربية الذي يطبعه النقد والرفض. من جهة أخرى، يساهمون في تحسين الصورة النمطية الغربية للإسلام وإزالة التشويهات والافتراءات المتعمدة عليه والتي ترسخت في عقول كثير من الغربيين.

عمل هؤلاء المعتنقين للإسلام على إزالة الخوف المصطنع من الإسلام أو الحدّ منه في المناطق التي يعيشون فيها، بحكم احتكاكهم الإيجابي مع المجتمع ودرايتهم بثقافته. هذا الخوف الذي تنامي بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، بسبب ما ينفثه الإعلام في جميع الوسائل والذي يدفع إلى العداء والصدام والتهويل من الوجود الإسلامي المتنامي باعتباره مصدر خطر على نمط الحياة الغربية وقيمها ونسيجها الاجتماعي. ولإزالة هذه التخوفات يعمل هؤلاء الغربيون المسلمون على كشف إبداعات الإسلام الحضارية وما أنجزته الحضارة الإسلامية للإنسانية كافة، وما يمكن أن يقدمه الإسلام للعالم المعاصر. كما أن أنشطتهم الاجتماعية وأعمالهم الخيرية تكرس سمعتهم الحسنة وسلوكهم القويم الذي يشجع الآخرين على اعتناق الإسلام لما رأوه من خلق حسن واجتناب القيام بأعمال تنافي طبيعة المجتمع وقيمه. كما يحرصون على مراعاة القوانين والحفاظ عليها.

والمسلمون الغربيون لهم دور كبير في صياغة فكر ومنظور إسلامي جديدين، قد يؤسس لعلاقات مستقبلية إيجابية بين الإسلام والغرب.

أمثلة لإسهاماتهم في تطوير الفكر الإسلامي

1 - محمد أسد 

قام المفكرون الغربيون المسلمون بترجمة النصوص الإسلامية من قرآن وسنة إلى عدة لغات غربية. فمحمد أسد مثلاً، ألف عدة كتب ترجم بعضها إلى العربية "كالطريق إلى مكة"، والإسلام على مفترق الطرق"، و"منهاج الحكم في الإسلام" وقدم ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية مرفوقة بتفسير له أدرج فيه آراءه للأحكام والعقائد الإسلامية. كما قام بترجمة قسم من صحيح البخاري، "إلا أنه في تفسيراته لهذه الترجمات، يبدى آراء غريبة، فهو مثلاً ينكر معجزات الأنبياء ويجوز عليهم الوقوع في الأخطاء والخطايا مثلهم في ذلك مثل أي شخص آخر، ويؤول الجن والشياطين والملائكة تأويلاً رمزيًا كما يبدي آراء فقهيه تبدو غريبة2. كما أن أسد في ترجمته للقرآن الكريم، يتصرف في الألفاظ القرآنية تصرفًا واسعًا يطمس مفهومهما ويخرجها عن سياقها. فهو مثلاً يفسر المسيخ الدجال الأعور الذي يجوب الدنيا بالحضارة الغربية والمدنية الصناعية الحديثة، والتي هي عوراء، حيث تنظر إلى ناحية واحدة من الحياة، وهي الرقي المادي، غافلة عن جانبها الروحي، وبمعرفة أعاجيبها الميكانيكية تمكن الإنسان من أن يرى ويسمع وأن يقطع مسافات لا نهاية لها بسرعة خارجة عن نطاق التصور. إن خبرتها العلمية "تنزل الغيث" وتنبت الزرع وتكشف من تحت الأرض عن كنوز لا تخطر ببال."3

إن فكر محمد أسد يتسم بالتأويل، بل بالإسراف فيه، حيث أوّل كثيرًا من الأحاديث النبوية بما يناسب رؤيته للعصر وإسقاطاته عليه. يعطي إبراهيم عوض في كتابه عددًا من الأمثلة التي شملت "مغالطات واهية"، ومثلت عبثًا بنص القرآن الكريم خصوصًا فيما يتعلق بالغيبيات. يقول: «الحق أني أخشى أن تكون هذه التأويلات المسرفة المتعسفة واشية بوجود شبهة إنكار، ولو مبطنا، لبعض من جوانب عالم الغيب، وإلا فما معنى أن يضرب الإنسان صفحًا عن كل ما يمت إلى ما يسمى في القرآن بـ"عالم الغيب" مؤولاً إياه كل مرة بشيء من عالم الحس أو مما يتعلق بعالم الحس»؟4. كما أن محمد أسد ينظر إلى متع الجسد نظرة تقززية، وأن الحياة الأخرى لديه، إنما هي حياة روحية محضة.

يكثر محمد أسد، في ترجمته للقرآن، من المقارنة بين القرآن والكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى في الموضوعات المشتركة بينهما، فينتصر للقرآن. وقد أثبت في مواطن مختلفة ما أصاب الكتاب المقدس من عبث وتحريف، كما أخبر به القرآن الكريم، وكذلك حديثه عما امتاز به القرآن عن غيره من الكتب السماوية بكفالة الله له، وحفظه من التحريف والتغيير إلى أبد الآباد5. هذا إضافة إلى إنكاره النسخ في القرآن.

في الجانب السياسي، قام محمد أسد بدراسة النظام السياسي في الإسلام، حيث جمع أفكاره في رسالة كتبها بعنوان: "بناء الدستور الإسلامي"، حيث كان في باكستان مشاركًا في مؤسسة حكومية مهمتها وضع الأسس الفكرية والاجتماعية التي سيقوم عليها بنيان الدولة. فقام برسم الخطوط النظرية لدستور إسلامي مبني على أساس التعاليم السياسية انطلاقًا من القرآن والسنة6. أما في كتابه "منهاج الإسلام في الحكم"، فحاول أن يبرز بعض النصوص الواضحة من الشريعة والتي لها علاقة بمشاكل الدولة والحكومة، وناقش كيفية تطبيقها حسب مقتضيات العصر الحديث، وبين المواد الشرعية التي يجب أن تحتل مكانًا مميزًا في دستور يقوم على الإسلام. كما حاول أن يثبت أن الشريعة تقدم مبادئ محددة واضحة لنظام سياسي خاص بها، وأن الاجتهاد كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي يضع التفاصيل بما يحقق حاجات كل عصر7.

يعرض أسد في هذا الكتاب الطريقة التي ينبغي أن تساس بها الدولة الإسلامية في العصر الحديث، والأساس الذي يجب بناء هذه الدولة عليه والمتمثل في دستور إسلامي وقوانين إسلامية ورئيس مسلم. إذ ليس في الإسلام ما يسمى بالفصل بين الدين والسياسة، كما أن الإسلام ليس عبادات فحسب، بل هو أيضًا نظام اجتماعي غايته توفير التوافق والانسجام بين أفراد الأمة وطوائفها وتهيئة السبل للعيش الحر الكريم8.

2 - مراد هوفمان

قام مراد هوفمان بتنقيح وتصحيح نسخة مترجمة لـ"هننغ" وإصدارها في إخراجين مختلفين بالنص الألماني منفردًا وبالنص الألماني مقابل النص العربي. وقام بتغيير اللغة من الأسلوب القديم المشابه للغة الإنجيل إلى اللغة الفصحى المعاصرة. كما قام أيضًا "بأسلمة" المتن والحاشية وإضافة تفسير مختصر مكان حواشي "هننغ" القصيرة المخالفة للإسلام9. فهذه الترجمة وغيرها للقرآن والسنة، ساعدت على التعريف بالإسلام في الغرب، وكانت مرجعًا مهمًا للغربيين لاعتناق الإسلام.

يؤكد هوفمان على ضرورة إعادة تأسيس الفكر الإسلامي لمواجهة مد ما بعد الحداثة في كل الجبهات: التعليم، الاقتصاد، الاتصالات، العلوم السياسية، القانون، التكنولوجيا. وهذه ضرورة لحماية الحق في الاختلاف الثقافي في عالم يسعى لفرض النموذج الغربي عالميًا.

في كتابه "الإسلام كبديل" يرسي هوفمان الأسس الفكرية التي تجعل من الإسلام البديل للنظام الغربي، ففي مقدمة كتابه هذا يقول: «عندما ننافس العالم الغربي والشيوعية على قيادة العالم، كان يمكن اعتبار الإسلام نظامًا ثالثًا بينهما، ولكنه اليوم النظام البديل للنظام الغربي، يتوقع بعض المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم. فليس الإسلام بديلاً من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربي، بل هو البديل"10. وهذا ما يؤكد عليه في كتابه "الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود"، أو في كتابه "الإسلام عام 2000" حيث يقدم العوائق لنمو الإسلام في العصر الحالي، كما يجعل الغرب يصد عنه ويزهد فيه بل وساخرًا منه. ومن ثم، يقدم هوفمان الحلول التي من شأنها أن ترد للإسلام اعتباره كدين وحضارة، وأن تهيئ الغرب لقبوله والاعتراف به، ليكون الإسلام هو الدين الأول للبشرية في الألفية الثالثة من دون أن يكون هناك صدام حضاري.

إلا أن هوفمان يثير كثيرًا من المسائل والمفاهيم الإسلامية الخلافية والمثيرة للجدل، حيث يناقشها على أساس علمي رصين، معززة بأمثلة وشواهد من التاريخ والحاضر، كالأصولية التي يعتبرها خطرًا على الإسلام وعلى استقرار الحكومات الإسلامية، أو كالتصوف الذي يعتقد أنه ساعد على إبقاء جذوة الإسلام رغم العواصف المعادية القاسية، وأنه لعب دورًا في انتشار الإسلام في أفريقيا وكذا في دخول كثير من المفكرين الأوربيين الإسلام، وأن التصوف لا يزال قائمًا رغم عصر العلم والعقلانية11.

هذا، إضافة لمناقشة مسألة القدر في الإسلام، وكثير من القضايا الفقهية كالقوامة في الإسلام. فهوفمان يرى أن آية القوامة فهمت فهمًا مغلوطًا من علماء الأمة، فهو ينفي قوامة الرجال على النساء. وبذلك ينحى منحى محمد أسد في المبالغة في التأويل لتطويع معنى الآيات القرآنية كما يرى أن مبدأ تعدد الزوجات عائق أمام زحف الإسلام إلى الغرب، وفتح شهية الغربيين لقبوله12.

سياسيًا، وعلى غرار محمد الأسد، الذي كان دائمًا مصدر إلهام لمراد هوفمان، فقد حدد المبادئ الأساسية للدولة الإسلامية، إذ يؤكد أن الإسلام دين ودولة تقوم على الشورى، وأنه لا يجب في أي حال فصل الدين عن الدولة لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى حالة انفصام في شخصية الناس. كما ناقش مسألة حقوق الإنسان في الإسلام وعلاقتها بمسألة الحدود وغيرها من القضايا الفكرية المختلفة والمرتبطة بمبادئ الإسلام، كما يتخذ موقفًا عدائيًا.

3 - روجي غارودي

يرى غارودي أن المبدأ الإسلامي الذي تقوم عليه النهضة الإسلامية هو الاجتهاد الذي نادى به رواد نهضة الإسلام الحي مثل محمد إقبال في باكستان، وابن باديس في الجزائر، وغيرهم والذين يدعون لإسلام قادر على أن يكون مسايرًا لمبدأ التغيرات التاريخية في عصرنا. يقول غارودي: "كتب محمد إقبال في كتابه: "إعادة بناء الفكر الديني في "الإسلام" أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام، يقول: ليس القرآن الكريم مجموعة من الأحكام الشرعية... إنه هدفه أن يوقظ في الإنسان وعيًا أسمى لعلاقاته بالله والكون.. أن القرآن الكريم يعلمنا أن الحياة خلق دائم وذلك يقضي بأن لكل جيل الحق في حل مشكلاته الخاصة، مسترشدًا بعمل السلف لا معوقًا بذلك العمل. إن الخطأ الأساسي والقاتل لمستقبل الإسلام هو بالضبط أن يرفض مبدأ الحركة هذا وبذلك عينه يغدو عاجزًا عن إعداد مشروع مستقبلي لحل مشكلات زمنه13.

فغارودي يدعو للرجوع إلى المنابع الأولى للإسلام، والاقتداء بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والحذو حذوهم، واستعمال حكمتهم لحل مشاكل العصر. وبذلك فالرجوع إلى الإسلام في مراحله الأولى لا يعني حسب غارودي الدخول إلى المستقبل ونحن نتقهقر.

والاجتهاد عند غارودي، يقتضي نقد التفاسير التي راكمها المفسرون للقرآن، والذين لا يخرجون عن التفسير الحرفي للكتاب في ممارسة تقليدية شكلية وآلية للإسلام دون مواجهة مشاكل عصرهم. يقول غارودي: «إن الاجتهاد هو الشرط الأساسي للنهضة، وهو معرفة تمييز الأولويات والخروج من ظلام "التقليد" واتباع التوحيد انطلاقًا من القرآن "الوحي الإلهي" ومحاربة الوثنيات المعاصرة من علمانية وتقديس التقنية»14.

فلكي يثبت الإسلام رأيه في مواجهة مشاكل العالم وخلق مستقبل ذي نزعة إنسانية في مواجهة النموذج الغربي المفلس، يجب أن تحمل شريعته حلولاً للمشاكل التي يتخبط فيها العالم من أجل خلاصه.

يعتقد غارودي أن القرآن والسنة يحملان حلولاً إلهية صالحة لكل زمان ومكان مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات الزمنية والمكانية بالموازنة بين الحوادث ومراعاة التقاليد الخاصة لكل شعب وصالحها العام في إطار الالتزام بمبادئ ومقاصد القرآن والسنة.

كما يدعو غارودي إلى التشبث بالمنبع والمصدر الحقيقي للتشريع الإسلامي وهو القرآن والسنة. فكثير من الجماعات الدينية والسياسية أصبحت تقتصر على الاجتهاد والتقليد والتفسير فقط لخدمة مصالحها ودوام استمراريتها ونزعت من المؤمنين حق التصرف وأصبح حكرًا على بعض الفقهاء الذين لم يخرجوا عن التقليد ومغفلين مستجدات العصر وحركات التاريخ، كما حل العرف محل القرآن.

فكثرة التقاليد والتفاسير وتفاسير التفاسير ما هي إلا تبرير للتسلط والقمع والتفرقة الاجتماعية التي أدت إلى تدهور العالم الإسلامي. ولتفادي القراءة الحرفية وإصباغ الشريعة بمصالح الطبقات والأفراد والمؤسسات يدعو غارودي إلى البحث "في القرآن نفسه بعيدًا عن رواسب اثني عشر قرنًا من التفسيرات ومن المذهبية والشكلية".

إلا أن غارودي يماثل بين كلام المفسرين والفقهاء، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار كليهما كلام بشري لا يحق خلطه بالكلام الإلهي. يقول غارودي: «ومهما يكن ثراء سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكلام المفسرين والفقهاء في الماضي، ومهما بلغ من احترامنا لتلك التجربة التي نستلهمها فلا يمكن أن نضع القرآن مع هذه الأشياء جنبًا إلى جنب لأنه هو الكلام الإلهي والسنة هي الكلام البشري وليس لنا الحق أن نخلط الكلام الإلهي بالكلام البشري»15.

من جانب آخر يرى غارودي أن الإسلام هو العقيدة الأصلية لإبراهيم عليه السلام، وأن النبي محمد لم يجئ بدين جديد، بل جاء متممًا لعقيدة إبراهيم. يقول غارودي في كتابه وعود الإسلام: «لم يدع النبي محمد أبدًا أنه يجيء بدين جديد وإنما يواصل ويجدد ويتمم تلك العقيدة الأصلية التي كان يجد لها في عقيدة إبراهيم التعبير الأمثل (...) وأن كلام الرسول المتمم لكلام ذرية طويلة من الأنبياء ولا سيما إبراهيم وموسى وعيسى قد ظهر في لحظة فاصلة من التاريخ»16.

ويؤكد أيضًا على أن الإسلام هو العقيدة الإبراهيمة بقوله إن النبي محمد «لم يدع أنه يؤسس دينا، بل جاء ليرشد الناس بوحي من الله، إلى أن يتذكروا من جديد العقيدة الأصلية عقيدة إبراهيم، أعني ألا نعبد إلا إلهًا واحدًا. وأن ننبذ إذن المعتقدات الطفيلية والطقوس التي لا حياة فيها»17. فرسالات كل الأنبياء  كانت واحدة وهي الخضوع لشريعة الله الواحد الأحد، وهذه الشريعة هي شرعية كل الخلق18.

وعلى أساس هذا الاعتقاد، وعندما أنشأ غارودي متحف قرطبة للحضارة الإسلامية في إسبانيا، قام في هذه المناسبة بعقد مؤتمر ديني إبراهيمي، أسند رئاسته بالتساوي إلى ثلاثة شخصيات، إسلامية ومسيحية ويهودية19.

4 - موريس بوكاي

قام موريس بوكاي بتفسير علمي للقرآن، حيث فسر الآيات القرآنية التي تشمل حقائق علمية على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة. ولعل اندهاشه بحقائق القرآن العلمية بدأ عندما  كان رئيسًا للجراحين في فرنسا وعمل على تشيح مومياء فرعون واكتشاف أسرارها التي ربطها بنجاة فرعون من الغرق كما يتحدث عن ذلك القرآن الكريم، فخلص إلى أن القرآن الكريم يضم حقائق عليم وظواهر طبيعية غير قابلة للنقد في العصر الحديث. إضافة إلى أن القرآن وبعد دراسة علمية رصينة وطويلة لم يجد أي خطأ، عكس التوراة الحالية التي تضم أخطاء علمية ضخمة. وهذا ما يوضحه في كتابه "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث" والذي يعد خلاصة دراسة موضوعية مجردة وجهد في البحث عن الحقيقة.

فإضافة إلى الترجمة وتفسير النصوص الدينية ومناقشة الأحكام الفقهية والسياسية، قاموا بإنتاج أعمال مكتوبة وسمعية وبصرية تستهدف جميع فئات المجتمع الغربي لتقديم التعاليم الإسلامية وتعريفهم بها وهذا ما ساهم في دخول كثير من الغربيين الإسلام. كما كتبوا قصصًا تحكي تجارب اعتناقهم الإسلام والمشاكل التي واجهوها في مسيرة تحولهم للإسلام. فكانت خلاصة بحث عقلاني دقيق وتنقيب حثيث عن الحقيقة، فلخصت حالة تخبطهم التي مروا بها قبل إسلامهم. فهذه القصص تجاوزت الحديث عن رحلة الإيمان، لتطرح قضايا مثيرة في الفكر الإسلامي وعقيدته ومبادئه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكذا حال الأمة الإسلامية وما آلت إليه والمصاعب التي يواجهها الإنسان الغربي عامة، أو المتحول إلى الإسلام خاصة. ومن أبرز الأعمال التي تجسد ذلك: "الطريق إلى الإسلام" لمحمد أسد أو "الصراع من أجل الإيمان" لجيفري لانغ أو "الطريق إلى مكة" لمراد هوفمان.

إلا أن ما يؤاخذ عليه معظم المفكرين الغربين المسلمين، أنهم يخوضون في مختلف القضايا الإسلامية الخلافية المعقدة، ويصدرون فتاوى رغم أن غالبيهم يفتقد إلى أي نوع من التعليم الديني أو الدراسة الجامعية التي تؤهلهم للخوص في مثل هذه القضايا وإبداء الآراء الفقهية. إضافة إلى الصعوبات التي يواجهونها في فهم النصوص الدينية العربية ـ باستثناء القليل منهم كمحمد أسد الذي قضى أكثر من ثلاثين سنة في تعلم اللغة العربية، والتعرف على الثقافة العربيةـ ودراستهم لنصوص تاريخية تحتاج خبرة كبيرة في اللغة العربية، وهذا ما يجعلهم يعتمدون على نصوص مترجمة إلى لغات غربية غير كافية لفهم المعنى الحقيقي لإصدار فتاوى وآراء فقهية. كما يعطون هذه الآراء بناء على تأويلات خاصة، وفهم شخصي للنص الديني دون الاستناد إلى مصادر الأحكام الإسلامية.

من جانب آخر، يعبر بعض المفكرين الغربيين المسلمين في إنتاجاتهم عن مواقف معادية للثقافة والحضارة الغربية. مما يؤثر على اندماج وتعايش الأقليات المسلمة في الغرب، وإثارة مشاكل الكراهية والعنصرية لدى المواطنين الغربيين. فنجد مراد هوفمان مثلاً، ينفي وجود أي تسامح ديني في الغرب عندما يتعلق الأمر بالإسلام، أو روجي غادروي الذي يهاجم الديمقراطية في الغرب ويصفها بأنها "ديمقراطية شكلية". وهناك من يمثل امتدادًا لسياسات خارجية، وينقل إلى الغرب نزاعات ومشاكل دينية وإيديولوجية يعاني منها الشرق.

 

الهوامش:

1 - راغب السرجاني، عظماء أسلموا، دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى 2013 ص: 12.

2 - إبراهيم عوض، فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون، مكتبة شبكة التفسير والدراسات القرآنية، ص: 3.

3 - محمد أسد، الطريق إلى الإسلام، ترجمة: عفيف البعلبكي، دار العلم للملايين، لبنان، د ت ص: 253.

4 ـ إبراهيم عوض، فكر محمد أسد، ص: 58.

5 - المرجع نفسه، ص: 69.

6 - محمد أسد، منهاج الإسلام في الحكم، ترجمة منصور محمد ماضي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة 5، عام 1978، ص: 10.

7 ـ محمد أسد، منهاج الإسلام في الحكم، ص: 12.

8 - إبراهيم عوض، فكر محمد أسد، ص: 115.

9 ـ مراد هوفمان، ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية ـ ترجمة نديم بن محمد وعطا إلياس، ص: 6.

10 - مراد هوفمان، الإسلام كبديل، ترجمة عادل المعلم، دار الشروق، الطبعة الأولى،1997، ص: 9.

11ـ مراد هوفمان، الإسلام كبديل، ص: 58.

12 - عبد العظيم المطعني، استدراكات مراد هوفمان على الإسلام ، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة 1 /2005، ص: 43.

13 - روجي غارودي، نحو حرب دينية، ترجمة صياح الجهيم، دار عطية للطباعة والنشر، بيروت، ط: 2، 1996 ص: 33.

14 - روجي غارودي، الإسلام والقرن الواحد والعشرون، ترجمة كمال جاد الله ـ الدار العالمية للكتب والنشر 1999 ص: 65.

15 - روجي غارودي، الإسلام والقرن الواحد والعشرون، ترجمة كمال جاد الله ـ الدار العالمية للكتب والنشر 1999 ص: 94.

16 - روجي غارودي، وعود الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، دار الرقي ـ بيروت ـ الطبعة الثانية، 1985، ص: 25.

17 - المصدر نفسه، ص: 30-31.

18 ـ روجي غارودي، الإسلام والقرن الواحد والعشرون، ص: 31-32.

19 - رامي كلاوي، : روجي غارودي من الإلحاد إلى الإيمان، دار قتيبة للنشر، ط: 2 /1994، ص: 200.


عدد القراء: 3087

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-