تأثير غاستون باشلار في النقد الأدبي الفرنسيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-05-11 20:35:49

د. سعيد بوخليط

مراكش - المغرب

ليس من السهل جدًّا الحديث عن تأثير فكر باشلار في النقد الأدبي، لأنه تأثير فضفاض ومسهب جدًّا بحيث يصعب تحديده. يعود هذا، في جانب منه إلى كون التأمل الباشلاري لم يتموقع قط ضمن الحقل الخاص بالنقد الأدبي. ينبغي أن يستحضر فكرنا، جوابه المتسم بمرحه المعهود جدًّا، حين محاورته لصحافي على أثير المذياع، يقول باشلار: «لا أعتبر نفسي أستاذًا للأدب. لا أمتلك بهذا الخصوص ما يلزمني من الثقافة، أليس كذلك؟ لم أحاول دراسة حقبة والنبش فيها. كل هذه الكتب التي أخرجت إلى الوجود، تبقى بالنسبة إلي وحسب وجهة نظري، مجرد كتب للتسلية» ثم أضاف في مؤلفه شعلة قنديل:«كم كنت أستاذًا سيئًا للأدب! لا أتوقف عن الإفراط في الحلم حين القراءة».

تواضع غير صحيح؟ قد يكون جيدًّا، بحيث يشعرنا أن هذا الاحترام لأساتذة الأدب لم يذهب حد منحهم وصاية استثنائية للتكلم عن الكتب. سيعبر باشلار كذلك، في موضع آخر عن تواضعه، لكنه يظهر في الوقت ذاته وعيًا أكثر دقة بخصوص دوره الريادي، عندما كتب في مقدمة كتابه الماء والأحلام: «إذا كان بوسع أبحاثنا إثارة الانتباه، فيمكنها أن تأتي ببعض الوسائل والأدوات بهدف تجديد النقد الأدبي». ضمن هذه الوسائل – أفضل: قول هذه المساعي - من التي بدت أكثر خصوبة؟ من الذين يجعلوننا اليوم نتمنى "استعادة باشلار؟".  

السؤال يطرح بقدر ما عرف النقد الأدبي حقًّا، تقلبات وظواهر جارية، منذ رحيل باشلار، بل وإبان سنواته الأخيرة، لكن أيضًا – وهي قناعتي على الأقل-بعض التطورات، التي تجعلنا نعتقد بأن الخاصية التحديثية لنصوص باشلار انفلت شيئًا ما. يصعب بالأحرى، الحكم على هذه النصوص بأنها لم تبلور قط حيزًا، من جانب أصحابها، لتنظير يجيز التكلم عن مدرسة باشلارية، ثم فضلاً عن ذلك، بدا تطبيق فكره على شرح النصوص الأدبية، مخيبًا للأمل بما يكفي. هو فكر-على الأقل في هذا الميدان- شديد الارتباط بشخص وتصور باشلار، ثم أسلوب اتصاله بالعالم، بحيث سيكون عبثيًّا ومثيرًا للسخرية، كل محاولة لـ''أن تكون باشلاريًّا''.  

مع ذلك، لا يمكن التشكيك في أن اكتشاف فكر باشلار، شكل تقريبًا بالنسبة لكثير من المتمرسين، إلهامًا منح أعمالهم انعطافًا يصعب تخيله بدونه. سأقتصر على بعض الأمثلة المأخوذة من الحقل الفرنسي، متمنيًّا أن يتعرض للإشكال بعض الزملاء الأجانب قصد الحديث عن أثر باشلار في الخارج. مع ذلك، سأبذل قصارى جهدي، ليس بهدف الوقوف الدقيق على جوانب التأثير، لكن مجرد مقاربة مختصرة قسرًا، تنصب على القنوات المجددة حقًّا، التي أرساها فكر باشلار للنقد، وكذا إن اقتضى الأمر، ما استثمر بصعوبة شديدة قصد الحديث عن خلود حقيقي لباشلار. 

سأدلي أولاً ببعض الأفكار عن العناصر. حين تأملها، ندرك الافتتان المطلق الذي تمارسه على العالِم، لكن أيضًا التواطؤات المبدعة التي توقظها لدى الشاعر، حينما انتقل باشلار من ابستمولوجيا العلوم إلى التأمل الشارد. ربما أيضًا، أعطى منحى فكره مجالاً لشتى أنواع سوء الفهم حدة، ثم جل أشكال الاستلهام القابلة أكثر للجدل. مؤلفاته: التحليل النفسي للنار، الماء والأحلام ،الهواء والرؤى، الأرض وأحلام يقظة الاستراحة، الأرض وأحلام يقظة الإرادة: وضعت تحت لافتة العناصر الفيزيائية الأربعة القديمة، أولى الأعمال التي تطرقت للتيمات الأدبية، وامتدت بصيت باشلار إلى أبعد من دائرة الفلاسفة، واتضح بأنه يقيم انتسابًا بين هذا الكاتب وذاك العنصر مما يشكل مفتاحًا أساسيًّا لنشاطه المتخيل. لقد أمسك بهذا المؤشر، واستعمله كمفتاح عام تفتح به كل الأقفال. سياق اتسم بالإغراء والجلاء، خلال حقبة شرعت معها الدراسات الأدبية تركز انتباهها على المتخيل لكن دون امتلاكها حيال فيضه المشوش، أي نموذج للتصنيف يحول دون تيهان الباحث. من هنا تعدد، وقد كنت شاهدًا على ذلك وشيئًا ما ضحية، أطروحات وفصول من أطروحات ثم أبحاث حول موضوعات الماء، والنار، إلخ، لدى مؤلفين عديدين.   

والحال، أنه إذا كانت المؤلفات الخمسة التي طرحت الإشكال تضمنت تحليلات رائعة، ونظرية الأمزجة التي أمدتها بالدعامة (توخينا أحيانًا أن نقول :المبرر)اصطدمت باعتراضات قلصت من قيمتها الاستكشافية. فهل من المؤكد ارتباط خيال كل كاتب بعنصر وحيد، بل مهيمن؟ لقد رأى باشلار في نيتشه فكرًا هوائيًّا، لكن من السهل تبيان (استطاع ميشيل مانسي Mansuy ذلك) أن صور النار عنده مهمة مثل صور الهواء. ألا توجد حالات وسطية ثم تبادلات، وتوترات، تبعث الشك بخصوص وحدة العنصر المطروح للنقاش؟ هل لائحة العناصر محدودة؟ ومن ثم أظهرت سنة 1953، مقالة لـ" جيلبير دوران"، ماسيكونه تحليل نفسي للثلج.    

مع ذلك لم ينكر باشلار قط الأهمية التي منحها عمله لمتخيل العناصر الأربعة. أن نفهم مبرراته، يعني الاقتراب أكثر من الخاصية المؤسسة للمنظور النقدي مثلما تبناه منذ كتبه الأولى. يتعلق الأمر باستعادة الخيال قدرته على الخلق والإبداع والانفتاح، والتي نزعت تلك التقاليد المدرسية وكذا العقلانية الاختزالية إلى طمسها. لذلك يلزم مقاومة تيارين. يربط الأول المتخيل بالواقع، فيصير الخيال تقريبًا مجرد مادة ثانوية، سواء أن يستنسخه ثانية أو يخفيه. البحث، مع أتباع لانسون Lanson، عن الحقائق التاريخية أو البيوغرافية المتضمنة بين صفحات أعمال المبدعين الكبار، بدت له عملية بدون فائدة. سيكتب في شاعرية حلم اليقظة: «من الصعب جدًّا وصل الحياة بالعمل !.هل يمكن لكاتب السيرة مساعدتنا حين إخبارنا بأن هذه القصيدة كتبت فترة اعتقال بول فيرلين في سجن ''مونس''؟ ''السماء فوق سقف البيت، زرقاء جدًّا وصافية جدًّا "في السجن ! من الذي لا يشعر كأنه داخل سجن خلال ساعات السوداوية ؟ داخل غرفتي الباريسية، بعيدًا عن بلدتي الأصلية، أهتدي بتأمل شارد ل فرلين. تأتي سماء من هناك فتسود مدينة الحجر. تشدو ذاكرتي المقاطع الموسيقية لـ "رينالدو هان Reynaldo Hahn"،التي ألفها على قصائد فيرلين. تنمو بالنسبة إلى جملة انفعالات مكثفة، وأحلام يقظة، وذكريات، فوق هذه القصيدة .فوق- وليس تحت، قياسًا لحياة لم أحيها- ثم ليس مع حياة بئيسة لشاعر شقي». التحليل النفسي، وقد جذب اهتمامه بداية، كوسيلة للكشف عن القوى اللاواعية التي تعوق ممارسة التفكير العقلاني، سيبدو له، حينما توخى تطبيقه على تشكل الصور، بأنه يخضع لنفس الانتقادات. بالتأكيد العمل الفني، يقول باشلار، هو مطعّم بنزوات غريزية (وأيضًا تمثلات محمولة من طرف الثقافة). لكن يهمه فوق التطعيم، وليس تحته. 

نقول دون تردد، بأن هذا الوضع وجد نفسه متناغمًا مع بعض مناحي النقد المعاصر، وتوخت حتمًا تعضيده: تلك التي ميزت بعد كتاب بروست: "ضد سانت بوف"''، الذات الكاتبة'' عن ''الذات اليومية''، وجعلت من النص حقيقة مستقلة، لها مزاياها الخاصة، وأيضًا حسب البعض، قوانينها الذاتية. 

الخطر المقابل أن نرى في الصورة نتاج نشاط اعتباطي، دون تعليلات ولا علائق، ينفصل من خلالها الإنسان عن الكون، وهي تقريبًا وضعية جان بول سارتر ''وظيفة اللا واقع" إذا أردنا، فالخيال لا يتوخى حسب باشلار، أن يحتجزنا في عزلتنا. من هنا يحلم الإرساء للعنصر الأصلي، أي مع المادي، بكل أهميته. إجمالاً، لا يهم كثيرًا، تحديد العنصر أو تصنيفه ضمن السياج المقترح من لدن الفيزياء القديمة. المهم، أن المادة التي يحيلنا عليها تسمح للإنسان أن يؤكد في الآن نفسه انتماءه الكوني وديناميكيته المبدعة.   

يعد القارئ الباشلاري (تجلى هذا منذ التحليل النفسي للنار وتأكد من كتاب إلى ثان) حالمًا بالكون . باشلار الوفي لحدس الرومانسيين الكبير، يعرف بأن الإنسان يعيش في عالم التطابقات، حيث يكمن دور الشعر في تفكيك دلالة معنى ذلك. ما إن يتم الإفصاح عن هذه الأقوال، حتى أكون مضطرًا لأصحح نفسي. الشاعر حسب باشلار، لا يعيش وسط عالم التطابقات، مما يفرض بأنها هنا جاهزة كليًّا وليست في حاجة سوى لقطفها: إنه يعيش (فعلاً متعديًا) عالمًا من التطابقات، وليس له أن يكتشف رموزها، ومتمثلاً المعنى العميق خلف الظاهر، بل يعمل على إنجازها. سأحاول إظهار ذلك وأنا اقرأ نصًّا طويلاً إلى حد ما، لكنه يعد من بين أجمل نصوص باشلار، تضمنه كتاب شاعرية حلم اليقظة: «نعم، قبل الثقافة، حلم الإنسان كثيرًا .تنبثق الأساطير من الأرض، وتنفتح الأخيرة كي ترى بعين بحيراتها وتتملى السماء. مصير نحو العلو يصعد من الهاويات. هكذا تعثر الأساطير فورًا على أصوات الإنسان، صوت الإنسان الحالم بعالم أحلامه. يعبر الإنسان عن الأرض والسماء والمياه. كان الإنسان كلامًا لتلك الماكرو-أنتروبولوجيا وهي جسد الأرض الضخم. العالم جسد إنساني في التأملات الشاردة الكونية الأولية، نظرة إنسانية، نَفَس إنساني، صوت إنساني. لكن،هل بوسع أزمنة العالم هاته المتكلمة، الانبعاث ثانية؟ من يذهب صوب عمق حلم اليقظة، سيعثر ثانية على التأمل الشارد الطبيعي، تأمل شارد عن الكون الأول والحالم الأول. إذن العالم ليس قط أبكم. يوقظ حلم اليقظة الشعري عالم الأقاويل الأولى. تشرع كل كائنات العالم متكلمة من خلال الاسم الذي تحمله. من الذي سماها؟ أليس بقدر كون اسمها اختير على نحو جيد، فإنها تسمي ذاتها؟ كلمة تهتدي نحو أخرى .تريد كلمات العالم أن تصنع جُملاً. يعرف الحالم ذلك تمامًا بحيث يخرج ركامًا من الأقوال، عبر كلمة يحلم بها. الماء الذي "يرقد" أسود كليًّا في المستنقع، النار التي "تنام" تحت الرماد، ثم كل هواء العالم الذي "يتوسد'' العطر، جميع هؤلاء ''النائمين'' يشهدون وهم ينامون جيدًا، على حلم لانهائي .في حلم اليقظة الكوني، لا شيء جامدًا، سواء الكون أو الحالم، جلهم يعيش حياة خفية، إذن يتكلم الجميع بصدق. يسمع الشاعر ويردد. فصوت الشاعر هو صوت الكون».

بالتأكيد، ينبغي تناول هذا النص الرائع كما هو. لا يتضمن نظرية عن أصل اللغات، ولا ميتافيزيقا للتلازم، يلزم أن ننصت لها وفق دلالتها الحرفية. لكنه يعبر بطريقة غريبة تقريبًا، عن هذا الطموح الهائل قصد إعادة الإنسان إلى الكون الذي يوجه كل تفكير باشلار.

لكن ينبغي الانتباه! لا تعني عملية إعادة الإدماج هذه انضواء سلبيًّا حسب نظام مقرر سلفًا. طبعًا، يسمع الشاعر ويكرر، لكن الحالم الذي يتقدمه ويلهمه سرًا ليس كسولاً.

أريد الآن التركيز على هذا المنحى الثاني من النظرية الباشلارية للخيال والقراءة الشعرية. 

باشلار مادي. وقد كانت المادية العقلانية عنوان كتابه الأخير حول فلسفته للعلوم. ماذا يقول؟ ليس، بطبيعة الحال،أن الإنسان خادم للمادة، بل يسكن هذه المادة، ثم يفكر فيها علميًّا أو الحلم بها شعريًّا، ويحولها.بالنسبة للعالِم كما الشاعر، تعد المادة محرضًا. هكذا تستبعد المادة الخطر الذي يترصد العقلاني، الجمالي، الأستاذ وكذا العالِم المرتبط بصيغ الماضي: أن تخلق مسافة بينك وبين الموضوع، وكذا مجرد اختزاله إلى لعبة للأشكال والمظاهر. ومن ثم، كتب باشلار سلفًا، في الماء والأحلام :«ما إن نشرع في التمييز(…) بين كل المواد حسب العمل الإنساني الذي تثيره أو تقتضيه، فلن نتأخر قط كي نفهم بأن الحقيقة لا يمكنها حقًّا أن تتشكل أمام أنظار الإنسان إلا إذا كان نشاطه اقتحاميًّا بما يكفي وهجوميًّا بذكاء، هكذا تحصل كل أشياء الكون بشكل منصف على ''معدلها من النِّدّية'' .لكن في كتابه "الأرض وأحلام يقظة الإرادة''، وصف بكيفية مستفيضة هذا الصدام المفيد والمبدع بين الإنسان والمادة. الصفحات المبهرة بشكل ملحوظ، والتي انتقد من خلالها تحليل سارتر للمادة اللزجة، حينما رأى مؤلف الوجود والعدم، في تلك السمة رمزًا لغوص الوعي في ذاته. يخلص باشلار، إلى أن سارتر، فيلسوفًا بورجوازيًّا، يتأمل السائل عن بعد، يخاف الاقتراب منه، ولا يتخيل قط أن اليد العاملة بوسعها: «أن تفرض على المادة اللزجة صيرورة من الصلابة» ثم يضيف: «من الممتع جدًّا ملاحظة، الذي يخاف من مادة لزجة في كل مكان». مع هذا التراجع أمام المادة والتخلي عن الخيال،باعتباره ''تقوية للطاقة''، يطرح باشلار في المقابل، تجربة الخباز والطباخ، التي ستدرك جراء العجن أقصى لزوجة العجين، أو تلك المحيلة على الاسكافي، الذي يستعمل لزج القطران كي لا ينزلق الخيط ويتوطد رتقه: «نتيجة حثّ سريع،أزاح الفعل المناوئ لليد، كينونة القطران».

هي مجرد أمثلة، ركزت عليها كي أبين ارتباط باشلار إلى غاية عمله الأخير "شعلة قنديل"، بمفهوم الخيال المادي الذي يقتضي حوار فعالًا ومبدعًا مع الكون. من البديهي أن سلطة الصورة المبدعة، ثم ميزتها بأن تبرز وجودًا فائضًا، لا تتحقق فقط هنا حيث عللها الإرادة، والفعل، والعدوانية. بل من المثير أن نلاحظ كذلك، إلى أي حد انطلاقًا من عمله "شعرية المكان''، اتجهت ميولات باشلار نحو الصور التي تنطوي على اندماج سعيد وسط عالم مهيأ سلفًا إذا صح القول، ببنياته وخطوط قوته، للتحولات التي سيلحقها به حلم اليقظة. لكن الأساسي يبقى ثابتًا، والجوهري هذا التحول، بحيث تعد اللغة الشعرية في الآن ذاته الحيز والأداة، أفق غير ممكن إلا لأنه كامن في العالم المادي للمتخيل. 

طبعًا غير وارد، وصف الكيفية التي يتم عبرها هذا التحول ضمن التحليلات الباشلارية. سأكتفي مشيرًا إلى بعض جوانب منهجية القراءة (إذا أمكننا الحديث عن منهجية) التي يقترحها علينا باشلار. هذا يمكننا من تثمين جديده، وربما كذلك العوائق التي تعترض تعميمها مما يفسر نوعًا من صمت النقد المعاصر حول عمله.

ما يلفت الانتباه ربما أكثر، إذا قارنا عمل باشلار مع مجموع النقد الأدبي لحقبته، انحياز اهتمامه فقط بصور منفردة، مقطوعة غالبًا عن سياقها المباشر، ولا يموضعها سوى نادرًا جدًّا ضمن كلية العمل الذي أخذت منه .وحدها الاستثناءات التي تستحق الذكر: كتابه عن لوتريامون ثم دراسته عن إدغار بو Poe في "الماء والأحلام". هذا الاختيار كان إراديًّا تمامًا. في هذا الإطار، قدم جوابًا، يضمر سذاجة مموِّهة، حينما استفسره صحافي أواخر حياته: «أفهم جيدًّا، أنه يلزمني أن أدرس أكثر، لكنكم تطلبون مني أكثر مما ينبغي، لا أدري …، لست مؤهلاً كي أقوم بهذا المشروع. أتوخى على العكس، تكريس كل ما تبقى لي من القوة كي أواصل ما أنجزته. آه ! أجدني مع تلك القصيدة غير المحكومة كليًّا بوحدة،لكنها تتضمن صورًا جميلة. كما ترون دوري متواضع جدًّا، ولا أعتبر نفسي أستاذًا للأدب». 

يستبعد هذا الموقف، في الواقع، مجهود أساتذة الأدب بخصوص إعادة النصوص إلى حقبتها أو ثقافتها وكذا تقدير تماسكها ووحدتها. إذن، أبعد من الأساتذة يتجه بالأحرى مجهود النقد الأدبي، إلى العثور على "صورة في السجادة'' يتضح انطلاقًا منها كل شيء، أو الحدس المركزي كما عند جورج بولي أو جان ستاروبنسكي، الذي يمكن من تصفح العمل في كل أبعاده. 

نشير بكيفية عابرة، أن باشلار بذلك يتميز في الآن نفسه عن توجه فينومينولوجي معين ثم ما أسميه (دون أي صيغة تحقيرية) الإغواء البنيوي. التمس باشلار بإلحاح، إلى غاية تخلى كتاباته الأخيرة، لفائدة الفينومينولوجيا، عن مفهوم التحليل النفسي، الذي حظي في المقابل ضمن مؤلفاته الأولى بحيز واسع. مع أن، التيارات الأساسية للفينومينولوجيا، توجهت أكثر نحو تناول ذهني للكائن - في العالم أو الكائن- من أجل الموت، وليس الاستفسار في الاصطدام مع المادة الذي ميز مسار باشلار .حتى بالنسبة إلى ميرلوبونتي، الذي تناول العمل الفني على نحو رصين وخصب جدًّا، ستتموضع نقطة التقاطع عند مستوى وضعية الإنسان في المكان، ومواجهته للمرئي، التي لاتهم باشلار إلى حد ما، أو فقط إذا وجدنا فيها عملاً حول المادة، كما الشأن مع النحاتين. أما بخصوص ''الإغواء البنيوي''، الحاضر بصرامة حتى لدى من هم ليسوا بنيويين، فلا يتناقض حتمًا مع الامتياز الممنوح للصورة المنفردة، تفترض كل بنية الربط علاقة بين عناصر ليس لها قيمة (أو ليس كل قيمتها) في ذاتها.

يلزم مع ذلك إضافة، بأن باشلار صمم في البداية، مشروعًا يستلهم الاتجاه الأخير. حينما كتب في التحليل النفسي للنار، بأن: «كل فكر شعري هو ببساطة وبلا تحفظ، تركيبًا لمجازات»، وعندما نقارن الطريقة التي تتآلف وفقها هذه الأخيرة هندسيًّا الواحدة مع الأخرى في صيغة رسم تخطيطي يشبه وردة، بدا بأنه يصيغ مشروعًا، كي يسبر منهجيًّا أغوار المتخيل، لن نجد بداية لتحققه إلا في دراسته عن الشاعر لوتريامون. كثير من تلامذته- مما يظهر مدى خصوبة حدوسه، حتى عندما تجاوزوها – اختاروا هذه الوجهة. أفكر خاصة في جان بيير ريشار، والذي بغير إعطاء مساره لبوسا دياليكتيكيا ثقيلاً جدًّا، فقد انكب كي يظهر وجود منطق ترابطي للصور لدى جميع الكتّاب، أو أن "البنى الأنتروبولوجية للمتخيل'' لـ "جيلبير دوران" تشكل تركيبًا طموحًا بين دروس باشلار ثم ما نتعلمه من الأساطير والسيكولوجيا التوليدية للفكر البشري.   

العمل انطلاقًا من الصورة كما اقترحه علينا باشلار، يرتكز أولًا وقبل كل شيء، على الاقتران بدينامكيتها. المعطى الأخير، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك ،لا يأخذ بالضرورة صيغة مجابهة عدوانية حيال مقاومة المادة. حتى مع المؤلفات أو الصفحات المحتفلة  ببهجة الاحتضان، فالصورة التي فضلها باشلار دائمًا بخصوص حميمية فضاءات ملاذ أو انسياب الحلم الهوائي، لم تكن قط تمثيلاً جامدًا. تهمه فقط الصور التي تجعلك تستشعر داخل الشيء أو جوهره، نوعًا من الفعالية والعمل قصد القطع مع كل ما هو جاهز وقائم سلفًا. لذلك سرعان ما ألف نفسه في استئناس مع التيار السوريالي، مع أن باشلار لم يكن يهوى قط ثقافة الإثارة والبيانات.لأن السورياليين كما يقول، يفهمون جيدًا ''تشكيل الصورة'' بمعنى جعلها ناطقة وكاشفة من غير السقوط في التناقض .لقد تأمل طويلاً في كتابه: الأرض وأحلام يقظة الاستراحة، ''السواد الخفي" للحليب كما تكلم عنه جاك أوديبيرتي: «سيدرك جيدًا الشاعر الذي يتواصل سريعًا مع الصورة المادية العميقة، بأن مادة معتمة هي ضرورية قصد تكثيف بياض في غاية النعومة''. صورة سيقربها تحديدًا برايس برين، من هذا المقطع لـ "أناكساغور": "رغم ما تقوله عيوننا، فالثلج الذي يتألف من الماء، أسود''. أي مزية حقيقة، أن يكون الثلج أبيض إذا لم تكن مادته قط سوداء؟ إذا لم تنبع، من عمق كائنه المعتم، وقد تبلّر في بياضه؟ إرادة أن تكون أبيض ليست بعطاء لون جاهز يقتضي منا مجرد تكريسه. الخيال المادي،وقد اتسم دائمًا بصبغة مبدعة، يريد خلق كل مادة بيضاء انطلاقًا من أخرى سوداء، يريد هزم كل تاريخ السواد». 

يتجلى أيضًا هذا الطابع المبدع على مستوى القياس.يمكن للخيال أن ينفخ إراديًّا جسمًا، مثلاً إعصارًا بحريًّا، بحيث يجرفنا على إثره غاية حدود الدوار، أو على العكس، تقليصه حدّ أن نتلمس معه لا نهائيًّا أسرار الصغير. على نحو عام، خاصية الصورة أن توحي وتتيح وتنجز انتقالاً إلى أقصى مدى، حيث يلتحم التطلع مع الكائن المتلهف إلى المادة ويتوافق في ذات الوقت مع حاجة التجاوز الملازمة للطبيعة البشرية. لكني أكرر، هذه الحاجة للتجاوز لا تعمل فقط وفق منحى بروميثوس. أيضًا ندين لباشلار، بما للصورة من سلطة كي تنتقل بنا إلى أصل وجودنا والأشياء، وتخلق فينا حالة من العفوية والانفتاح تفوق كل التجارب المعاشة. من هنا أهمية حلم اليقظة المتجه إلى الطفولة: «الطفولة، يكتب باشلار، هي بالتأكيد أكبر من الحقيقة. ولكي نختبر، على امتداد عمرنا، ارتباطنا بمنزل الولادة، فالرؤية أكثر قوة من الأفكار... باستثناء  بعض أيقونات أجدادنا، لا تحتوي ذاكرتنا الطفولية سوى على نقود مستهلكة. من ثم، استنادًا على التأمل الشارد وليس الوقائع، تظل الطفولة حية فينا وشعريًّا مفيدة». 

من أجل تحديد موقف المشاركة الفعال المقترح على القارئ، استعار باشلار من فينومينولوجيا أوجين مينكوفسكي كلمة "رنين". أن تقرأ يعني مماهاة حالة ''الرنين'' .لا داعي كي نشير إلى ما تتضمنه هذه الدعوة، من تحفيز وحماسة وتحرر، من القواعد السيكولائية التي تسود أحيانًا التعليقات الأدبية، تحت لون العلمية. ينبغي مع ذلك القول، بأنها تطرح بعض القضايا. لكي يحدث الرنين كما ينبغي، يلزم امتلاك رهافة أذن باشلار وثقافته، والخلفية الهائلة للأبحاث الفلسفية والابستمولوجية التي ضمنت استقامة فكره. كلمة "حلم اليقظة" التي يؤثرها باشلار كثيرًا، لا ينبغي لها أن توهمنا. فالحلم، بالنسبة إليه، لا يساوي قط، هذيانًا. معاصرونا، المدركون للخطر، لم يخطئوا حينما اعتقدوا أن "اقرأ" lire تتأتى اشتقاقيًّا من'' legere"، أي ''لك الخيار'' فليس عبثًا مطابقة ذلك لمعنى ''ligare ''أي " أن نرتبط ثانية''، وبأن نصًّا هو نسيج سيمدنا بأسراره فقط إذا تلمسنا صلابته، واستكشفنا ترابطاته الجوانية والبرانية. بهذا الخصوص، ربما لأساتذة الأدب ما يودون الإدلاء به. 

توخيت منذ قليل التأكيد على استحالة ''اقتفاء صنيع باشلار'' دون أن تكون مثل باشلار. لا أريد بهذا الإقرار، أن أخمد قليلاً همتكم، لأنه سيقودنا نحو خلاصة مفادها أنه إذا بقي عمله بالنسبة لنا موضوع انذهال، فليس قابلاً قط كي ننكب عليه.

لقد ذكرت سلفًا إحدى السبل التي يمكنها أن تفتح انطلاقًا من ذاتها. إنها التي سلكها جان بيير ريشار.بالنسبة إليه، حتمًا لصور كاتب ما سلطة أن تجعلك تحلم وتبدع وجودًا فائضًا كما تمثلها  باشلار، لكن لا ينبغي تقويمها بشكل منفرد. توجد بينها صلات وكذا شبكات غير واعية تقريبًا، تخول لنا أن نرسم بين طيات عمل أو بالأحرى، في إطار مجموع عمل كاتب ما، مسافات دالة، ونحدد من ثم أفضل مما يفعله الارتباط بعنصر واحد، الطابع الخاص لشخصيته المبدعة. لقد وظف جان بيير ريشار بخصوص نيرفال Nerval، تعبير'' الجغرافيا الساحرة''، مما يوحي بفكرة مستجدات الميدان، ووجهات نظر متميزة، ثم مسالك للتواصل يسمح لنا كي نسلكها. بحيث نجد أنفسنا مثلاً مرتبطين ثانية، بتيمات ظاهرة تبتعد كثيرًا عن تلك التي للبركان يتهيأ كي تدخل في فوران، أو التي لقصر القرميد الأحمر، المضاء بنوع من النار الداخلية .يعطي المسار نتائج مذهلة غالبًا، لكنه يصطدم قليلاً بنفس الصعوبة التي نجدها مع باشلار :يلزمك امتلاك رهافة حس جان بيير ريشار، واهتمامه بكل دقائق ومختلف امتدادات الإحساس الذي تضمره الكلمات،بهدف توطيد هذه الشبكات بحيث لايضمن ترابطها وتماسكها، سوى شخصية الناقد الذي ينجز هذه الاختيارات.

يبدو لي أيضًا أنه يوجد في التحليل النفسي مسارًا ثانيًا، من الممكن تحسسه دون خيانة الحدوس الباشلارية. باشلار، وقد قلت ذلك سرعان ما انفصل -لاسيما في صيغته الفرويدية - تحت ذريعة أنه عوض التركيز على حداثة الصورة، فقد توخى اختزال هذه الأخيرة إلى ما هو معلوم، أي ما هو جنسي في غالب الأحيان. كان الاعتراض مقنعًا كليًّا، نظرًا لبعض تفسيرات نظرية التحليل النفسي لتأويل الأدب حيث أمكن باشلار الإلمام بها خلال اللحظة التي أنجز فيها عمله. يتجه تفكيري مثلاً، إلى العمل المخيب جدًّا للأمل للدكتور لافورغ، المعنون بـ: إخفاق بودلير.

ربما لم يأخذ باشلار كفاية في الحسبان مفهوم التسامي، الذي لا يرتكز أبدًا على اختزال إبداع فنان إلى صراعاته اللاواعية، لكن اقتفاء انطلاقًا من هذه الصراعات، آثار الخيمياء المحولة التي تهيئ ما سماه شارل مورون على نحو مضبوط جدًّا ''موضوعات وحدة الشعور". يظهر لي بأن دينامية الصورة، والتي يمنحها باشلار ثمنًا معينًا، تعثر هنا على كل حقوقها مادام يحدث الفنان هنا خروجًا حقيقيًّا من الدائرة التي يهدده مصيره النفسي كي يحتجزه داخلها. إنه يلتقي بالتأكيد، في هذا الخارج مع كل ممكنات الانخراط في حياة الوجود التي هي امتياز للفن تبدو ضرورية لباشلار، لكنه يفعل ذلك انطلاقًا من أوضاع حيث العلاقات ما بين البشر(يندرج في إطارها الجنسي بمفهومه الواسع)لاتفقد شيئًا من ثوابتها النزاعية الدرامية غالبًا. المسارات المختلفة جدًّا، للبعض عن البعض الآخر، التي يقترحها علينا على سبيل التمثيل لا الحصر: غي روزولاتو، جان بيليمان نويل، بيير غلودس، ميشيل كولو، تؤكد لنا بأن تصالح باشلار مع التحليل النفسي، مثلما نتصوره اليوم، ليس مستحيلاً لكن شريطة عدم نسيان ما يبدو لي أحد الدروس الكبرى لعمله: ينبغي لمختلف ما نكتبه عن الأدب، ليس فقط إشباع رغبتنا إلى المعرفة، لكن إيقاظ شهيتنا للقراءة. لذلك سأنهي مستشهدًا بهذا النص الجميل من كتاب شعرية حلم اليقظة: «أتمنى كل يوم أن تسقط علي من السماء سلة ممتلئة كتبًا تتحدث عن فتوة الصور. هو اعتراف بديهي، وهي معجزة في المتناول. أليست الجنة بمكتبة هائلة، هناك في أعالي السماء؟…لكن لا يكفي تسلمها بل يلزم الاحتفاء بها. ينبغي التكلم ''مماثلة '' بذات صوت البيداغوجي وكذا المختص في الحِمية. ينصحوننا كي لانقرأ  بشكل سريع جدًّا ونحذر من الإفراط في ابتلاع قطع كبيرة. يقولون لنا، قسموا كل واحدة من الصعوبات، قدر ما يمكنكم إلى قطع صغيرة قصد معالجتها بشكل أفضل. نعم امضغوا جيدًا، اشربوا بجرعات صغيرة وتذوقوا القصائد مقطعًا مقطعًا. كل هذه القواعد جميلة وجيدة، لكنها محكومة بمبدأ، ينبغي أولاً أن تكون لك شهية جيدة، كي تأكل وتشرب وتقرأ. ينبغي أن نرغب في القراءة والقراءة دائمًا…أيضًا، ومع بداية كل صباح، أمام الكتب المتراكمة فوق طاولتي، تحية أيتها القراءة ،أؤدي صلاتي كقارئ نهم: هيا، أنتظر منكم، هذا النهم اليومي».

 

* هامش:

Max Milner : Bachelard dans le monde ;PUF ;2000.PP.24-36.


عدد القراء: 8326

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-