ثنائية الحياة والموت في قصص إيفان بونينالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 22:11:47

جودت هوشيار

موسكو

نبذة عن حياة وأعمال بونين

إيفان بونين (1870 ـ 1953) أحد الأعلام البارزين في الأدب الروسي الكلاسيكي، وقد بدأ حياته الأدبية شاعرًا، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره حين نُشرت مجموعة أشعاره الأولى، التي نال من أجلها "جائزة بوشكين"، ثم منح الجائزة ذاتها للمرة الثانية حين ترجم عن الشاعر الأمريكي (لونغفيلو) ملحمته الشعرية "هياواثا".

بيد أن بونين معروف في المقام الأول ككاتب نثر ممتاز، ويُعد أهم كاتب للقصة القصيرة بعد تشيخوف. ويتميز أسلوبه بالثراء اللغوي والعمق السيكولوجي. بونين شأن تشيخوف يأسر القارئ في قصصه بوسيلة أكثر من أي متعة أخرى، إن قصصه مواقف آسرة وشخوص فريدة، فالكاتب يجذب انتباهنا فجأة لما هو عادي تمامًا ومألوف عندنا في خبرتنا اليومية والحياتية، ولما مررنا به في الماضي مرات عدة دون أن تصيبنا الدهشة لولا ذاكرته الفنية.

في عام 1909 ـ عندما كان في التاسعة والعشرين من العمر ـ منحته أكاديمية العلوم الإمبراطورية الروسية لقب أكاديمي تقديرًا لإبداعه الأدبي، وهو شرف لا يحظى به، إلا القلة من العلماء والمبدعين.

نال بونين جائزة نوبل في الآداب لعام 1933، عقب صدور روايته "حياة ارسينيف". و كان أول كاتب روسي يحصل على هذه الجائزة. وجاء في نص قرار منح الجائزة ما يلي: "بقرار من الأكاديمية السويدية تمنح جائزة الآداب لإيفان بونين لقاء الموهبة الفنية الحقة التي تمكن بواسطتها من إعادة خلق الشخصية الروسية بقالب نثري جميل".

عندما تقرأ قصص بونين لا يمكنك إلا أن تفكر في لغز الوجود الإنساني ومواجهة الإنسان لمصيره المحتوم.

ثنائية الحياة والموت في قصص إيفان بونين

ثنائية الحياة والموت، كانت واحدة من أهم الثيمات الرئيسية في ابداع إيفان بونين. وقد عالجها الكاتب بطرق مختلفة، ولكنه في كل مرة توصل إلى استنتاج مفاده أن الموت جزء لا يتجزأ من الحياة. وليس للإنسان عزاء أو سلوى، لا في العمل، ولا في الحياة الأسرية. الحياة اليومية روتينية ومملة، والعمل مرهق، والناس غرباء بعضهم عن بعض. عندما يأتي الإنسان إلى الحياة، فإنه يندفع على الفور إلى نهايته. العالم – هاوية، مستنقع، والموت مسألة صدفة. حياة الإنسان لا شيء بالمقارنة مع العالم. والإنسان نفسه عاجز وضعيف بصرف النظر عن موقعه في السلم الاجتماعي. كل شيء في العالم زائف ووهمي، والحقيقة الوحيدة هي الموت. ويرى بونين إن الحب هو مقاومة للموت وتجسيد للحياة. ولكننا إذا تمعنا عن كثب في قصصه عن الحب، نجد مفارقة واضحة، وهي إن الحب السمة الرئيسية للحياة: من يحب، يعيش حقًّا. ولكن الموت يترصد للإنسان دائمًا في كل لحظة، وفي كل مكان. ويرى بونين إن الحب العميق الجارف كونه تركيز للحياة واللحظة الأكثر توترًا في الوجود الإنساني ينتهي بالموت في أكثر الأحيان.

يأتي الإنسان إلى هذا العالم، عالم الفوضى، لمدة جدّ قصيرة من الزمن، والحياة توهب له لأسباب غير مفهومة لا يعلمها، إلا الله. والموت ينهي هذه الحياة على نحو مأساوي. وكل شيء يحدث مصادفة. وثمة ارتباط وثيق بين الحياة والحب والموت.

في مجموعة قصص بونين الرائعة "الدروب الظليلة " - التي أطلق عليها النقاد اسم  موسوعة الحب -  نجد إن النهاية التراجيدية أمر طبيعي، لأن الحب الحقيقي الجارف يقتل العشاق حتمًا، مما ينقذهم من خيبة الأمل. ولهذا لا نجد "في الدروب الظليلة قصة واحدة تنتهي بالزواج. الزواج يحمل معه العادة التي تقتل الحب عاجلاً ام آجلاً".

في العالم الذي صوره بونين في أقصوصة "أسطورة" شخصان: هو وهي. هي ميتة، وهو على قيد الحياة، ولكنه يعرف أنه سيموت أيضًا في يوم ما. و سيأتي آخرون إلى هذا العالم، وهو يأمل أن يعد هؤلاء بدورهم الزمن الذي عاش فيه، أسطوريًا.

وتعد هذه الأقصوصة، التي ترجمناها عن الأصل الروسي، نموذجًا لنظرة بونين إلى العلاقة، التي لا تنفصم بين الحياة والموت.

أسطورة

على أنغام الأورغ والغناء - كان الكل يغني على وقع الأورغ أغنية  حلوة، حزينة، ومؤثرة  تقول: "ما أطيب الوقت معك يا إلهي!". على إيقاع الأورغ والغناء رأيتها فجأةً بجلاء وأحسست بها. لا أدري من أين انبثق طيفها في خيالي بشكل مباغت وغير متوقع، شأن كل ما يفاجئني  به خيالي في الحالات المماثلة، على نحو يجعلني أفكر في الأمر طوال اليوم.

أعيش حياتها وزمانها. لقد عاشت في تلك الأيام الغابرة التي نسميها العصور القديمة. ولكنها رأت هذه الشمس ذاتها التي أراها الآن، وهذه الأرض التي أعشقها، وهذه المدينة القديمة، وهذه الكاتدرائية، والصليب الذي ما زال يسبح بين الغيوم، كالعهد به في العصور القديمة. وسمعتْ الغناء نفسه الذي اسمعها الآن. كانت فتية، تأكل، وتشرب. وتضحك وتثرثر مع جاراتها، وتعمل، وتغني. كانت فتاة شابة، فعروسًا، ثم أمًّا. ماتت قبل الأوان، مثلما تموت النساء الرقيقات المرحات في ريعان الشباب غالبًا. في هذه الكاتدرائية أقيم القداس على روحها. وها قد مرت قرون عديدة على رحيلها عن العالم الذي شهد منذ ذلك الحين كثيرًا من الحروب الجديدة، والبابوات الجدد، والملوك والتجار والقساوسة والفرسان. في حين إن عظامها النخرة، جمجمتها الصغيرة الفارغة راقدة تحت الأرض، كما رفات الآخرين. كم عددها في الأرض هذي العظام وهذي الجماجم؟ إن كل الماضي البشري وكل التأريخ الإنساني حشود غفيرة من الموتى! وسيأتي يوم سأنضم فيه إلى جموعهم. وسأبث أنا أيضًا الرعب بعظامي وجثتي في مخيلة الأحياء، كما فعلت تلك الحشود الغفيرة من الجيوش التي ستغرق الأرض يوم الحشر .. ومع  ذلك  سوف يعيش أحياء جدد بأحلامهم عنا نحن الموتى، وعن حياتنا القديمة وزماننا القديم الذي سوف يبدو لهم رائعًا، وسعيدًا، وأسطوريًّا . .


عدد القراء: 5099

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-