مأزق البنيوية وآفاق ما بعد البنيوية مناقشة هادئة لقضية ساخنةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-06-05 10:05:55

د. مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والنقد - الجامعة الإسلامية مينيسوتا

يتأسس منجز البنيوية Sructuralism في المجال النقدي على منح النص -بوصفه نصًا - مساحة رحبة من الحضور في الدرس والتحليل، ونأت في الوقت نفسه عن كل ما يمكن أن يكون عبئًا على النص، فيما يسمى الأبنية الفوقية للنص (الاجتماعي والديني والإيديولوجي والسياسي والاقتصادي والشخصي)، ورأت أنها ميتافيزيقية لا قيمة لها، تسيء للنص وقد تحمّله أكثر مما يحتمل.

لذا، فإنها رأت أن النص عبارة عن قالب لغوي وبنية ذات مستويات مختلفة ومندمجة لكيانات (صوتية وصرفية وذات تشكيل صوتي ومعجمي ونحوي تركيبي)، وبطريقة مشابهة تغدو البنية الأدبية تراتبًا للطبقات بمقتضى نموذج الشعرية (النصية) متعدد الطبقات ما بين اللغوي والجمالي، مع عدم الفصل بينهما، أي اختزال عناصر اللغة والعناصر التيماتية (التي ليس لها طبيعة لغوية) في مفهوم واحد، مدّعين أن العمل الأدبي ينطوي على عناصر اللغة فحسب دون غيرها(1).

وبناء على هذا المفهوم، فقد اقترح البنيويون - في قراءتهم للتاريخ الأدبي – نظرية مفادها أن: الفاعل في التأريخ الأدبي هو السلسلة الأدبية، أي المخزون المجرد لكل الإمكانات التي ينطوي عليها الإبداع الأدبي، فما يخضع للتطور ليس الأعمال الأدبية المتعينة وإنما البنية التي تحتل مكانة عليا في التراتب، فلا جدوى الركض في البحث عن علل التغير الأدبي خارج الأدب، فالأدب يتطور ذاتيًا، ضمن دينامية السلسلة الأدبية نفسها التي تتطور وفق نظامها المحايث، وليس ثمة إنكار للعوامل الخارجية (الإيديولوجية، السياسية، العلم .. إلخ)، غير أن المحرّك الدينامي في البنية عينها هو الذي يحدد استمرارية التاريخ (2).

فوفق المنظور البنيوي، فإن النص - من حيث كونه نصًا مستقلاً عن أية عوامل خارجية - يمكن أن يتطور بذاته، فهو أشبه بكائن طبيعي مادي، ينمو ذاتيًا ويمتلك فعالياته التي لها قانونها الخاص. لذا، وجب دراسة النص في قالبه المادي اللغوي المتكون أمامنا، وإقصاء أية عوامل أخرى خارجه.

أما "ما بعد البنيوية" فهي حركة منبثقة من البنيوية فهي أشبه بالمراجعة النقدية للفكر البنيوي، فلا عجب أن لا تحمل اصطلاحًا جديدًا، وإنما اكتفت بكلمتي "ما بعد" قبل "البنيوية" شأنها شأن حركات معاصرة ومجايلة لها مثل: ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة، في إلحاح واضح منها على أنها نقد ونقض في آن. هذا، وتدور أسئلة ما بعد البنيوية  المركزية حول البنية الاجتماعية واللغة، وامتلاك فضاءات واسعة للتصورات المستقبلية. فقد رأت أن البنيوية قدمت نسقًا مغلقًا لقراءة العالم، يتمثل في النص أو لغة النص، والعالم أكثر رحابة من أن نحصره على نسق واحد، كما أن لغة النص امتداد لما في العالم من حولها، فلا يمكن تفسيرها بمعزل عما هو خارج النص، وعن ذاتية المتلقي والسياق المنتج فيه.

إن مصطلح ما بعد البنيوية Postsructuralism كان في الأساس توجها وضعه أكاديميون أمريكيون للدلالة على أعمال غير متجانسة لمفكرين فرنسيين في العقد السابع من القرن العشرين، في سعي منهم إلى تكوين معالم واضحة لمراجعات تمت على الفكر البنيوي. وقد رفضت ما بعد البنيوية إمكانية إجراء دراسة حقيقية للإنسان أو الطبيعة البشرية بشكل مطلق،  لكنها رأت إمكانية تحليلها من خلال سرد التطور التاريخي التدريجي، أي رصد أبعاد التحولات من الخرافة إلى السببية، ومحاولة فهم تطور الإنسان، من خلال تحليل سرديات تاريخه الفردي أو الجمعي.

ويُعدَ "ريشارد هارلاند" هو أول من نظّر بشكل كلي في هذا المصطلح، ذاكرًا له مصطلحات أخرى مثل: ما فوق البنيوية Superstructuralism وأيضًا اللابنيوية Antistructuralism، وقد قصد "هارلاند" في تناوله لما بعد البنيوية والذي أطلقه في كتابه المعنون بنفس الاسم عام (1987)، دراسة المعطيات المنهجية النقدية الحديثة بطريقة شاملة، تلك التي طرأت على الساحة النقدية الغربية، وهي في مجملها تمثل مراجعات ونقاشات مضادة لسيادة البنيوية بعضًا من الوقت في الحياة الثقافية. وذكر أبرز مفكري هذا التوجه من البنيوية إلى ما بعدها، وهم: دي سوسير، شترواس، ياكوبسون، بنفنسنت، دريدا، فوكو، بارت، كريستيفيا، دولوز، بودريلارد، التوسير. كما يشير هارلاند إلى أنَ المصطلح قد مرَ بتحولات فكرية ومنهجية عديدة، فيما يشبه إرهاصات فكرية قبل أن يستوي في النهاية إلى اصطلاح مستقر، ذي فلسفة واضحة ورؤى مشتركة بدرجات متقاربة، فقد مر المصطلح بمرحلة اللاعلمية (Antisciencism)، عبر تقديم تحليلات وتأويلات لفرويد، وماركس إلى نقد طروحاتهما وإيجاد البديل، ومن دراساتٍ في اللسانيات، والصيغ الاجتماعية إلى دراسات تخصُصية، ودقيقة في السلوك اللغوي والاجتماعي أي أنه سعى إلى رصد ظاهرة ما بعد البنيوية في تشابكاتها وتقاطعاتها مع حقول معرفية مختلفة: لغوية، اجتماعية، نفسية، علمية، قبل استوائها في فلسفة تجمع تلابيبها، وتحاول أن تؤطرها في قواسم مشتركة(3).

أيضًا، يذكر هارلاند أنَ فلسفة ما بعد البنيوية جمعت المتناقضات الفلسفية التقليدية وزادت عليها وضاعفتها، وأنَ النتائج التي توصل إليها فوكو في كتابيه: "الكلمات والأشياء"، "حفريات المعرفة" هي النتائج التي تبناها كل نقاد ما بعد البنيوية، الذين أكدَوا الإشارات اللاجتماعية (Antisocialism) التي تتصف بخاصيتين: الأولى: أنَها إشارات متحركة متكاثرة، والثانية: كونها إشارات مادية محسوسـة. ويستخدم نقاد ما بعد البنيوية هذه الإشارات للتدليل على الممارسات الخارجة عن القوانيـن، والأعراف، والعادات، والمؤسسات المتحررة من السلطات، ويحدد هارلاند نقاد ما بعد البنيوية بـ (دريدا، فوكو، بارت، كريستيفيا، دولوز، جوتاري، بودريلارد)(4). فما بعد البنيوية تتمحور حول التمرد داخل النص وخارجه، فالتمرد داخل النص نراه في استراتيجية التفكيك القائمة على لا نهائية المعنى، وأن كل قراءة تحمل قراءة مضادة في الوقت ذاته. أما خارج النص، فيتمثل في التطلع إلى طبيعة الدلالات التي تبثها الإشارات النصية أو اللانصية، حول ما هو اجتماعي وثقافي، بهدف انفتاح الدلالة مطلقًا، وإعادة قراءة العالم والنصوص بشكل جديد. بجانب رفضها لكثير من البنى المؤسسية في المجتمع والسياسة والاقتصاد، وإضفاء الطابع العلمي عليها، بينما في الحقيقة تحولت إلى سلطات متحكمة.

وتمثل المفارقة في إدراك ما بعد البنيوية عجزها الكبير - بعد أحداث 1968 - عن تحطيم هياكل سلطة الدولة؛ من خلال التمردات الثورية ضد البنى الاجتماعية والسياسية المتحكمة في الحياة الفرنسية، فصوبت هدفها، وركّزت جهودها على زعزعة بنية اللغة في النصوص من خلال مناقشة الأنظمة الفكرية والاعتقادية بوصفها ندًا لها، وطرح توجهات سياسية وتنظيمية تهدف إلى تحليل البنى الاجتماعية والتأثير عليها، فضلاً عن محاولتها التهوين من الادعاءات العلمية والنقدية التي قدمتها البنيوية، حيث مثلت البنيوية طريقةً فلسفيةً في الطرح والتناول أقصت فيها الفعل الإنساني وأخفت ذاته، وتمركزت حول البنية بوصفها الملاذ الأخير لإنعاش الطرح النقدي، بعدما أُثقِل بخارجيات النص، وبذلك تعددت المناقشات، والطروحات التي قدمتها ما بعد البنيوية من طرح فلسفي، إلى سياسي، إلى اجتماعي، إلى لغوي لاهوتي في نهاية المطاف(5)، فقد كانت تمتلك حلمًا كبيرًا بتغيير الواقع في كافة أبعاده، ولكن الواقع كان أكبر بكثير منها.

فقد كان همّ البنيوية منطلقًا من النص لغة، باحثا في شكلانيته، دون البحث في حقيقة اللغة، وإنما في مدى صلاحيتها في نقل المراد من النص، وهي صالحة إذا قدمت نظامًا لغويًا متماسكًا من الرموز والقواعد التي تكيف لغة النص الأدبي. وانحصرت بالتالي مهمة النقد في اكتشاف هذا النظام، أي القواعد الشكلية الحاكمة، وليس البحث عن معنى العالم وتجلياته، وإنما يتناول القواعد اللغوية والشكلية التي اتبعها النص في لإضفاء معنى ما على العالم(6). ومن هنا، أصبح النقد البنيوي أسيرًا للغة النص وقواعده وبنيته الجمالية، يرى العالم من خلالها، فبات محصورا والنص في الأساس رحب، ومنفتح على العالم برموزه وإشاراته وإيحاءاته.

 

المراجع:

1 - بنيوية مدرسة براغ: البنيوية صعودها وتأثيرها وآثارها، لوبومير دوليزل، ترجمة حسام نايل، موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي، من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية، تحرير: رامان سلدن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ، 2006م، المجلد الثاني، ص74.

2 - السابق، ص90 ، 91

 -3 see: Superstructuralism: The philosophy of structuralism & post-structuralism , Richard Harland ,Methuen , London . New-York , 1986. P 125 -170.

 - 4 Ibid, P184 - 185 

5 - بعض التيارات فيما بعد البنيوية أو شجرة الأنساب النيتشوية، ت: خميسي بو غرارة، مجلة نزوى، عُمان، العدد 20 لسنة 1999، ص44 ، 45

6 - نظرية البنائية في النقد الأدبي، د. صلاح فضل، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة، 1980م، ص328.


عدد القراء: 6266

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-