نظرة في كلاسيكيات ديزنيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-06-05 14:49:40

رقية نبيل عبيد

الرياض

لا زلت أستغرب حتى الآن المقدرة الفائقة لدى ديزني في ليّ وتحريف القصص بمهارة فائقة، ولا أقول هذا مديحًا، فهم ودون أن ندري - برغم أن المعلومات متوفرة للجميع لكن أحدًا لن يكلف نفسه عناء نبش الجذور الحقيقية لكل قصة -، هم يحولون القصة لما يخدم مصالحهم، يحولونها لقصة كارتونية عن الشجاعة والإقدام واتباع القلب البريء والذي يرشد دومًا للصواب ألا وهو الحب في أغلب الأمر.

لنأخذ على سبيل المثال بوكاهًنتاس التي صورت في الفيلم الكارتوني كابنة لزعيم قبيلة من الهنود الحمر، باسلة وشجاعة وتأبى إلا أن تتمسك بتراث عائلتها العريق، رافضة كل ما يعرض أمامها من سبل الحضارة، كما يتبين في الجزء الثاني، حيث تخلع عنها فساتين لندن المبهرجة وتمسح عن وجهها مساحيق التجميل الباهظة وتعود لثوب المرأة الهندية الأصيلة وتعاود ارتداء عقد أمها، وإن في المقارنة بين ما صوروه وبين الحقيقة المجردة لأمر يدعو للرثاء!

فما بوكاهنتس إلا طفلة مسكينة انتزعها الإنجليز من أهلها فاعتنقت المسيحية وتزوجت مزارع تبغ من بينهم، وأنجبت له طفلًا وقدمت للعالم على أنها مثال "للهمجية المتمدنة"، ثم ماتت المسكينة وهي لما تجاوز عامها الثاني والعشرين، أي أن سبب شهرتها الوحيد هي الاستخدام الذي استخدمها الإنجليز له، كم نحن رائعون ومتحضرون وهم حثالة، وهذه الابنة البارة هنا هي الدليل الحي على ذلك!

مثال آخر هو أحدب نوتردام وإسميرالندا وكوازيمودو الأحدب المشوه المعذب بحبه، شاهدت الفيلم أولًا بالطبع وكنت لتوي طفلة، وفيه رأيت إسميرالندا امرأة تبدو لسبب لا أفهمه كبيرة في السن عكس أميرات ديزني الأخريات، وهي كالمعتاد شديدة الشجاعة وتحارب لدعم نضال قومها الغجر ولا تخاف من بشاعة منظر كوازيمودو بل تمسه دون تردد وتخبره أن العالم ليس بالقبح الذي يتخيله وكوازيمودو في نهاية الفيلم يتقبله الناس ويقدم محبوبته لفارسها الشجاع مباركًا علاقة الحب التي جمعت بينهما، ثم أخيرًا وبعد سنوات قرأت رواية أحدب نوتردام الأصلية لفيكتور هوجو والذي كان مغرقًا في الكآبة والبؤس لسبب لا أعرفه فهو من كتب البؤساء كما نعلم.

وبالطبع أذهلني الفارق الرهيب بين الرواية والفيلم.

في الرواية ليست إسميرالندا سوى فتاة صغيرة لا تتجاوز السادسة عشر من عمرها وهي لم تكترث لحظة للغجر أو غيرهم بل ما لم تعلمه أنها لم تكن تنتمي إليهم فقد سرقها الغجر من أمها الفرنسية وهي بعدُ رضيعة وقد عثرت عليها أخيرًا لكن وأيادي الجلادين تدق صومعتها ولقت حتفها دون أن تحميها، إسميرالندا التي لم تكترث سوى بحبها الوحيد الفارس المقدام فوبوس والذي حطم قلبها بعدما أعجبته للحظات ثم تركها ليذهب لمن هي تماثله حسبًا ونسبًا، ونادته في أحلك لحظات خوفها وضياعها، نادت تستنجد به فلم يسمعها وكانت صيحتها تلك سببًا في موتها وموت المرأة التي هي أمها، إسميرالندا التي كانت ترتعد خوفًا من مظهر كوازيمودو وبرغم ذلك لم يخفِ المسكين حبه عنها وظل يحوم حولها يحميها ويهيم على وجهه كالمجنون يبحث عنها حتى رآها تشنق على يد حراس الكاهن وتتشنج وترتعد رعدتها الأخيرة، ولبث الأحدب المتوجع بجوارها حتى مات معها وذابت عظامهما إلى تراب في آخر الرواية، هيكلان يضم أحدهما الآخر "وحين حاول البعض فصل الهيكل الذي كان يضم الهيكل الآخر .. سقط غبارًا منثورًا".

 وكذلك التباين الرهيب في شخصية الكاهن الشرير في الفيلم كانت إسميرالندا له شهوة رغب أن يسحقها كما رغب أن يسحق كل قومها ولم تكن ثمة فضيلة واحدة فيه، بينما في الرواية كان للكاهن فضائل كثيرة منها أخاه الذي أحبه وخذله، كما أن حبه للغجرية الصغيرة كان صادقًا واكتوى بنار هذا الحب لأنه لم يستطع أن يرتبط بغجرية لقيطة فقرر السعي وراءها وقتلها على غرار مبدأ الثلاثة رجال الذين عشقوا امرأة واحدة فلما علموا استحالة أن تكون من نصيب أي منهم رموها بالسحر وأحرقوها حية!

وفي "علاء الدين" تحكي أغنية البداية باللغة الأصلية للفيلم عن بلاد فضاء حارقة صحراء وتقول "هذا وحشي، لكن هاي .. إنه الوطن ."

وتظهر عدة مشاهدة مسيئة للدين في الفيلم ليس أولها تصوير السلطان فاحش الغنى بينما يقتات شعبه من صناديق القمامة، وليس آخرها مشهد محاولات الحراس لقطع يد "ياسمين" التي أخذت تفاحة وأهدتها لطفل فقير عطفت عليه دون أن تدفع ثمنها.

ويصوَّرُ السلطان في الفيلم قصيرًا، متخمًا بالسمنة، ساذجًا وفيه شيء من البله، ولا همّ له سوى ابنته وألعابه الخزفية، بينما في الحقيقة لا يوجد دور للسلطان في القصة، علاء الدين من المفترض أنها إحدى حكايات كتاب ألف ليلة وليلة بيد أنه لا وجود للقصة إلا في النسخة الفرنسية المترجمة من قبل المستشرق الفرنسي أنطوان جالان، وتحكي الحكاية عن علاء الدين الشاب الصادق الخلوق العطوف والذي يقنعه ساحرًا من المغرب بأنه عمه ويخدعه ليستخرج له مصباحًا سحريًا من كهف العجائب، وكما خدعه جعفر في الفيلم كذلك يفعل عمه وينتهي الأمر بعلاء الدين محبوسًا في الكهف بعد انهياره، وهنا فارق بسيط بين الفيلم والقصة الأصلية حيث في الفيلم يوجد جني واحد يخرج لعلاء الدين بعد أن يفرك المصباح السحري عن غير قصد، بينما في القصة يملك علاء الدين خاتمًا سحريًا يفركه ليخرج له جني وهو من يرشده لطريقة خروج جني المصباح والذي يكون أقوى بكثير من جني الخاتم، ويملك علاء الدين سلطة كاملة عليه وليست أمنيات ثلاث فقط، وتدور أحداث القصة ويغتني علاء الدين ويتزوج ابنة السلطان بدر البدور لا ياسمين، ويسرق ساحر المغرب منه المصباح لكنه يقتله آخرًا بمساعدة من جني الخاتم ويرث السلطة بعد موت والد زوجته وينتهي الحال بالجميع سعداء.

 ومن المفارقات الكبيرة جدًا في قصص ديزني هي الفيلم الأشهر للشركة "الجميلة والوحش"، لطالما ظننت أن الفيلم مقتبسٌ عن حكاية قديمة وعلمت أن هناك بعض الاختلافات بلا شك لكن الحقيقة أذهلتني تمامًا، فهذه هي الحكاية الوحيدة التي تستند إلى قصة حقيقية من التاريخ .. موغلة في القدم وشديدة السوداوية.

هذه القصة ترجع إلى عام 1537م، وصاحبها رجل يدعى "بيترس غونزالفس"، ولد هذا الرجل في جزر الكناري، وكان أول رجل في التاريخ يعاني من مرض نادر يؤدي لظهور الشعر بغزارة على الوجه وكافة أنحاء الجسم، لذا أسموا المرض "متلازمة الذئب"، ومنذ ولادته عومل كما لو كان نوع نادر من الحيوان، وحبس في قفص وأرسل لهنري الثاني، هدية تتويج لملك فرنسا الجديد!

وبعد أن تمت دراسته عشرات المرات، قامت زوجة هنري الثاني والتي خلفت الحكم من بعده بإيجاد عروس له، وكانت تلك الأخيرة خادمة فقيرة تُدعى كاثرين، البعض قال أن الملكة المبجلة ظنت أنه سيكون من المضحك تزويج كائن كهذا، ورغبت أن ترى رد فعل زوجته وكيف ستكون حياتهما معًا، إلا أن ظنها قد خاب ولا شك حينما عاشا معًا لما يقارب أربعين عامًا وأنجبا سبعة أطفال، وإن كان هناك وجه تشابه بين هذه الحكاية والفيلم فهو أن الزوجة تعلمت أن تحب زوجها بحق وأخلصت له ما تبقى من عمرها.

 كانت هذه الحكاية إلهامًا على مرّ العصور للعديد من المؤلفين، ومنهم قصة كوبيدو والروح للكاتب اللاتيني لوكيوس أبوليوس، ثم انتقلت للقرن الثامن عشر عن طريق الكاتبة الفرنسية غابرييل سوزان دي فيلنوف والتي كانت قصتها مشابهة كثيرًا لقصة فيلم ديزني.

أما حورية البحر آريل، الصهباء المرحة المتفجرة حيوية وحياة، ذات الصوت العذب والتوق المعذب لعالم البشر، فتقايض مع الساحرة الشريرة أورسولا صوتها مقابل أن تهبها أقدامًا بشرية لثلاث ليال على أن تتحول لبشرية كاملة ما إن يمنحها الأمير قبلة الحب، فقد كانت حكايتها المفصلة من الخيال الخالص لمؤلفي ديزني، حوريات البحر، وهي كائنات غالبًا ما تكون إناثًا، جسدها العلوي بشري بينما يتخذ شكل ذيلٌ سمكيّ طويل في الأسفل، وقد شاعت حكايات عديدة عن رؤيتهن من قبل البحارة عبر التاريخ، بل قد ورد ذكرهن في الحضارة الإغريقية عن طريق حكاية الآلهة اتارجيس والتي قتلت إنسانًا خطأ فعاقبت نفسها بأن تحولت لسمكة، لكن التحول لم يكتمل وبقي الجزء العلوي بشريًّا، وقد ذكروا في قصص ألف ليلة وليلة والتي لم تترك عجيبة إلا وحوتها بين دفتي كتابها.

 على أية حال القصة الوحيدة التي تقترب من الفيلم هي قصة صياد فرنسي عاش في مستهلّ القرن العشرين وصاد حورية بشباكه وفتن بجمالها وتزوجها وأنجب منها من الأبناء سبعةً، ثم عندما أحسّ دنوّ أجله قتلها خوفًا أن تكون لغيره من بعده، واضح كم تشيع خرافة الرجال الثلاث الذين قتلوا ساحرة حبهم في الأساطير!

والعديد من كلاسيكيات ديزني مبنية في الأصل على خرافة أو أسطورة أو قصة قديمة من رواية مثل فيلم الأميرة والضفدع المأخوذ من قصة تحمل نفس الاسم للأخوين الألمانيين غريم واللذان جعلا شغلهما الشاغل جمع القصص التراثية والشعبية في كتاب واحد، وتتناول حكاية الأميرة والضفدع عند الأخوين أميرة عثرت على ضفدع وقبلته ليتحول إلى أمير ساحر ويخبرها كيف أن ساحرة شريرة حولته وبقي منتظرًا أميرة لتفك له عقدة الساحرة، بينما في الفيلم لا تقبل الضفدع الأمير المتحول أميرة، بل فتاة فقيرة بسيطة تدعى تيانا، ولا تكون القبلة خاتمة القصة بل بدايتها، حيث تؤدي القبلة مفعول عكسي نظرًا لأن تيانا ليست أميرة فتتحول إلى ضفدعة هي الأخرى، وبعد رحلة حافلة لهما معًا تنتهي بالقضاء على ساحر الفودو الشرير والذي كان سببا في تحول الأمير، ويكتشفان خلالها عن طريق الساحرة العجوز الطيبة أن الشيء المهم حقًا هو كونهما معًا ومحبتهما لبعضهما البعض، فيتزوجان ضفدعًا وضفدعة، ويتحولان بشريان بعد قبلة الزفاف، حيث أن الزواج جعل من تيانا أميرة وبالتالي فك السحر.

قصة أخرى للأخوين غريم سريعًا هي رابونزل، ذات الضفيرة الذهبية شديدة الطول، في الحكاية تحبس رابونزل في برج عاجيّ وحينما يأتي أميرها لإنقاذها ترمي له بضفيرتها المجدولة فيتسلقها لأعلى البرج ويصل إليها، وهذا هو الدور الوحيد للشعر الذهبي في الحكاية، بيد أن هذا الشعر الذهبي المسترسل الطويل هو البطل الرئيسي في فيلم ديزني، بل أجزم أنه سبب النجاح الساحق الذي حظي به الفيلم، في الحكاية بالطبع يكون أميرًا من ينقذها غير أن ديزني قررت للمرة الثانية تجاهل دور الأمير وجعلت من رابنوزل أميرة مفقودة ومن أنقذها كان لص تسلل إلى برجها هربًا من مطارديه فيكون سببًا في معرفتها الحقيقة، في قصة الأخوين غريم رابونزل ابنة نجارين بسيطين وتخطفها منهما ساحرة شريرة بعد أن ألقت تعويذة عليهما جعلتهما ينامان ، عقابًا لهما على تناولهما نباتات من حديقتها، ولما كانت الساحرة لا ترعى رابنزل كما ينبغي طال شعرها كثيرًا، في الفيلم تعتمد الساحرة الشريرة على شعر رابونزل كونه يملك قوى سحرية تسبب بقاءها شابة وعلى قيد الحياة، وبالتالي حينما يقطع يوجين اللص الشعر الطويل تصرخ الساحرة مذعورة وتلقى من أعلى البرج لتشيخ وتتحلل قبل وصولها سطح الأرض، بينما في حكاية الأخوين الساحرة هي من تقص شعر رابونزل بنفسها وتستخدمه خديعة لاستدراج الأمير وهو من يلقى من فوق البرج من قبلها لينجو ولكن يفقد بصره ثم بعد سنوات يتزوجها ويصبح ملكا وهي مليكته.

وغيرها كثير، ملابسات عديدة يلمسها المرء كلما أمعن قليلًا في أفلام هذه الشركة، ولست بصدد الحديث عنها كلها فهي كثيرة، فقط استوقفني مدى بؤس بوكاهانتاس الحقيقية مقارنةً بتلك المرأة "السعيدة جدًا" في الفيلم، ربما لأني قرأت كثيرًا عن المجازر التي ارتكبتها أمريكا في حق الهنود لتستولي على أراضيهم بدءًا من قتلهم جهرًا وحتى بيع المواد المسمومة لهم وانتهاء بحبسهم في محميات الآن كنوع نادر وجليل من الحيوانات.

والأمر الآخر الذي يذهلني كلما فكرت فيه، هو مدى تغلغل أفلام ديزني في شخوص أطفالنا، فهم ينشؤون عليها حرفيًا وتصبح جزءًا أصيلًا من ماضيهم وذكراهم، ويأخذون عنها الحوادث والشخصيات كما لو كانت منقولة لهم من كتب التاريخ، ومما لا أشك فيه أن العديد من هذه القصص حولت لتناسب الأطفال حيث تكون في أصلها قاتمة وخواتيمها مأساوية في كثير من الأحيان، لكننا نظل دومًا عرضة لابتلاع أي معنى خفيّ أو إشارة مسيئة وضعت في بطن الفيلم لغرض ما، دون أن ندري أو نلتفت لذلك.


عدد القراء: 6115

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-