بودابست لؤلؤة الدانوبالباب: معالم وحضارات

نشر بتاريخ: 2015-05-10 10:25:11

فكر - المحرر الثقافي

هنغاريا أو كما تُسمى بلاد (المجر) تقع بين سبع دول أوروبية هي إيطاليا، وسلوفاكيا، وأوكرانيا، ورومانيا، وكرواتيا، والنمسا، وصربيا، وسلوفينيا. ما إن تطأها حتى ترى روحًا شرقية جميلة ممزوجة بعراقة أوروبية متألقة. تزداد دهشتك من المكان والناس عندما تتصفح تاريخ هذه البلاد. فلو قلبت صفحاتها لصدمك تاريخ المجريين الذين عانوا كثيرًا من ويلات الحروب واحتلال الممالك المتعاقبة لهم.

وعندما تقرأ عن بودابست، تحبها أكثر... بتاريخها... بكبرياء أهلها وصمودهم وحفاظهم على هويتهم ولغتهم وإرثهم أمام الاحتلالات التي تعرضت إليها بلادهم، من المغول (الذين دمروها)، إلى العثمانيين (1541- 1699). ثم وقوعها تحت حكم إمبراطورية هابسبورغ في القرن التاسع عشر (والمفارقة أنه كان عصرها الذهبي)، ولاحقًا تحت هيمنة الشيوعيين السوفيات (1947-1989). يذكر أن الغرب يطلق على المجر اسم هنغاريا، علمًا أن أهلها يسمونها المجر. ثم تزورها، وتكتشف أن الكلام والقراءة شيء، والواقع شيء آخر. يغمرك من الوهلة الأولى دفء أهلها وطيبتهم وكرم ضيافتهم، بما يُذكّر بالطباع والعادات العربية. ولا غرو، فالمجر نقطة التقاء الغرب مع الشرق، وتمتزج في قومها الأصول الغربية والشرقية (قبائل من أصول تركمانية).

ستظن أنك ستقابل شعبًا أقل ما يقال عنه أنه يتوجس خيفة من الغرباء، لكن العكس ما سوف تراه.. سترى شعبًا بشوشًا .. يحفظ تاريخه، ويقدر ما صاغه الأوائل، فتجده ساعيًا في ترميم كل ما من شأنه أن يمثل حقبة ما، وذلك حفاظًا على الروح والتاريخ. عدا كل ما من شأنه أن يمثل اندماجًا واضحًا مع التطور المعاصر لا سيما في العاصمة بودابست تلك المدينة التي يمكنك أن تعيش تاريخها وحاضرها في الوقت ذاته وأنت تستمتع بطقسها البارد المحمل بالنسمات اللطيفة الآتية تارة من نهر الدانوب، وتارة أخرى من الهضاب التي تحيط بالمدينة لا سيما في شهر أيلول/سبتمبر، حيث يعد شهرًا مثاليًّا لزيارتها.

 (لؤلؤة الدانوب) بودابست هي (لؤلؤة الدانوب)، كما يصفونها، وعاصمة المجر وأكبر مدنها. تمتد على ضفتي نهر الدانوب الشهير وتعد (ملكته). تم توحيدها من مدينتين هما بودا القديمة المقامة على التلال على الضفة الغربية من النهر حيث تنتشر القصور، ومدينة بست (بشت كما يلفظها أهلها) على الضفة الشرقية من النهر، وتشكل المركز الحكومي والتجاري النابض للمدينة التي تعد أكبر سادس مدن الاتحاد الأوروبي، ويبلغ عدد سكانها مليوني نسمة.

ولعل من أهم ما يميز بودابست هو نهر الدانوب (نهر العواصم) يخترقها نهر الدانوب، أطول نهر في الاتحاد الأوروبي، وثاني أطول نهر في أوروبا بعد نهر الفولغا. ينبع من الغابة السوداء في ألمانيا، ويعبر عشر دول أوروبية أو يحاذيها، ويلقب بـ (نهر العواصم) لأنه يمر بأربع عواصم هي فيينا وبراتيسلافا وبلغراد وبودابست. لكن الدانوب في بودابست لا يشبه ذاك الذي ألهم الموسيقار الشهير يوهان شتراوس في مقطوعته (الدانوب الأزرق)، بل هو أقرب إلى وصف الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش في قصيدته (الدانوب ليس أزرق). ويُقال: إن النهر فعلاً يصبح أزرق في بعض مقاطعه، وتحديدًا في منطقة تقع بين بودابست ورومانيا، لكنه يتشح باللون الرمادي في باقي مساره، وربما بفعل التلوث والعوامل الطبيعية.

ويمكنك أن تبحر فيه متنقلاً بين العواصم من خلال العبّارات المنتشرة على ضفافه، كما أنه يُقسم اليوم بودابست إلى قسمين، وقد كانت في الأصل مدينتين اتحدتا فيما بعد لتصبح بودابست. كانتا بفعل الدانوب الذي لم يزل بودا وأبودا (أي بودا القديمة) على الضفة الغربية، ومدينة بست على الضفة الشرقية، أما اليوم فجمع الاسم الذي فرقه النهر لتصبح (بودابست).

عندما تنظر جهة الغرب ستتراءى لك (بودا) التي أحاطتها التلال المكسوة باللون الأخضر، وينتصب في أعلاها تمثال الحرية الخاص بهم، وهو يمثل امرأة تحمل في يدها سعفة نخيل. ستشاهد جمالاً عمرانيًّا مبهرًا عاصر الحصار والويلات والحروب العديدة يراوح بين القوطي والباروك الى الحديث (آرت نوفو)، ما جعلها تعيد بناء مبانيها التاريخية محافظة على الجمال الأصيل لها. كما أنه في غالب الترميم يميلون إلى إعادة استعمال الأنقاض لإعادة إحيائها. (بودا) هو الجزء التاريخي المرتفع والذي انطلقت منه الثورة المجرية عام 1848، يحتوي على العديد من المزارات التي تجذب الكثير من السياح، بالإضافة إلى مبنى البرلمان المجري وقصر كيريالي بالوتا الذي يعد متحفًا كبيرًا، ومركزًا ثقافيًا مميزًا في هنغاريا. كذلك يضم الآن متحف التاريخ والمتحف الوطني ومتحف الفن المعاصر والمكتبة الوطنية، وهو مدرج على (قائمة التراث العالمي) وتخضع لإعادة ترميم. وقريبًا منها، يقع مرج صيادي السمك، وكنيسة ماثياس التي حوّلت في عهد العثمانيين إلى مسجد.

وعلى تل غير بعيد، ما زال تمثال لطير (تورول) الأسطوري يحلق عاليًا، ومعه أسطورته التي تروي كيف أرشد هذا الطير القبائل المجرية إلى هذه المنطقة، حيث استقرت وبنت دولتها. ومن المعالم المميزة أيضًا، مبنى البرلمان، وميدان الأبطال، ودار الأوبرا، وقصر الفنون، ومتحف بودابست التاريخي، والحديقة العامة (سيتي بارك)، وتلة غيليرت. وهناك أيضًا "جسر السلسلة" (زيتشني لانشيد)، وهو الأقدم وكان يربط بين مدينتي بودا وبست. معظم هذه المعالم يعود إلى القرن التاسع عشر الذي يعد العصر الذهبي للمجر، ويلاحظ فيه التأثيرات الأوروبية، خصوصًا لجهة الفن المعماري. لذلك، ليس غريبًا أن تسمى بودابست (باريس الشرق)، وأن يُطلق على أحد أهم شوارعها، شارع أندراشي، اسم (الشانزيليزيه)، فهو صمم فعلاً على هيئة الشانزيليزيه الفرنسية في القرن التاسع عشر، علمًا أن هذا الشارع مدرجٌ على قائمة (يونيسكو) للمناطق المحمية. وليس غريبًا أيضًا هذا التشابه الكبير بين (دار الأوبرا) المجرية و(أوبرا فيينا) الشهيرة، حيث إن المجر كانت جزءًا من (الإمبراطورية النمساوية المجرية). على أن أوبرا بودابست أكبر حجمًا وأكثر زخرفة بحيث تلائم الشخصية الحضارية المجرية ذات الأصول الشرقية الآسيوية. كذلك فإن التأثير البريطاني واضح في بودابست، تراه في بناء الجسور، مثل (جسر السلسلة) الذي صممه مهندس إنكليزي على هيئة جسر مماثل وأقل حجمًا كان صممه لمدينة مارلو البريطانية. كما أن نظرة واحدة على البرلمان المجري تستحضر البرلمان البريطاني (ويستمنستر)، خصوصًا أن مهندسه درس الهندسة في بريطانيا. ويعد البرلمان المجري أحد أجمل المباني المطلة على الدانوب، خصوصًا عندما يضاء ليلاً. وهو ثالث أكبر برلمان في العالم، والأعلى كلفة لأن معظم جدرانه وإكسسواراته مطلية بذهب من عيار 24. ويتوسط إحدى قاعاته (التاج الملكي) الذي يعده المجريون أعلى مراحل الفخر الوطني، ويحاط بحماية فائقة، ويُمنع تصويره أو الاقتراب منه.

عندما تتجول في مساء بودابست تنخفض درجات الحرارة، ولن تشعر حينها إلا بدفء التاريخ الذي ستشاهده في طرقات بودا متجليًا في حصن هالاباستيا (حصن صياد السمك) بشرفاته ذات الطراز الروماني والأوروبي. أما الجزء الشرقي (بست) فتعد مركزًا تجاريًا مهمًّا، حيث تكثر فيها الأسواق والمحال التجارية، ومراكز الترفيه، وهي مدينة تعج بالحركة ليلاً ونهارًا، ويرتبط الجزآن بسبعة جسور تعد من أجمل الجسور التي يمكن أن تشاهدها، إذ يحمل كل جسر طابعه وتاريخه الخاص وتصميمه المميز. وحينما تسير على أحد الجسور ستشعر وكأنك معلق بين السماء والنهر. والعجيب أن هذا الجمال يختلف مشهده تمامًا في الليل عن النهار، وكأن لكل منهما روحًا مختلفة.

يحتوي الجانب الشرقي (بست) أيضًا على أكبر حديقة حيوان في أوروبا، وفنادق ومناطق سياحية تجذب السياح. وعلى غرار (لندن آي)، يوجد كذلك (بودابست آي)، وهي عجلة شاهقة الارتفاع يمكن أن تحمل 332 شخصًا. كذلك تميزت منطقة (بست) بمبانيها العتيقة والمعاصرة، وبوجود ساحة الأبطال التي تتمتع بهندسة معمارية مميزة، إذ تعد الساحة أحد مواقع التراث العالمية. ويوجد بها نصب تذكاري ضخم يُعرف بنصب الألفية، وهو يمثل قادة القبائل السبع التي كونت المجر. ويطل على الميدان مبنيان مهمان في العاصمة المجرية وهما متحف الفنون الجميلة، وقصر الفنون.

وعلى الرغم من أن بودابست خلعت ماضيها الشيوعي، فغيّرت أسماء شوارعها وأزالت التماثيل المرتبطة بتلك الحقبة، وقامت بتحديث المدينة إلى ما هي عليه اليوم، إلا أن الماضي القريب ما زال حاضرًا عبر شواهد عددت بعضها مجلة (وير) الهنغارية في عددها الأخير، ومنها: (منزل الرعب) الذي تحول إلى متحف بعد أن كان مقراً للبوليس السري، وتُعرض فيه طرق التعذيب وأدواته في عهد ستالين. (ميمينتو بارك) على مشارف بودا، والذي يضم تماثيل ونصبًا تذكارية قديمة وحديثة، منها قدم ستالين، وهي الجزء المتبقي من تمثال له تم تدميره خلال انتفاضة عام 1956. النصب التذكاري السوفياتي الذي أقيم في ذكرى نصر الجيش الأحمر عام 1945. تمثال (إمر ناغي) واقفًا على جسر يرنو إلى مبنى البرلمان، علمًا أن ناغي هو قائد انتفاضة عام 1956 ضد الستالينية، والتي انتهت بإعدامه. مقهى (بامبي اسبريسو) الذي حافظ على ديكوره الخارجي والداخلي منذ افتتاحه قبل 50 عامًا، وما زال الإقبال عليه كبيرًا حتى اليوم، ربما، على حد قول المجلة، "لأنه يذكر المجريين بالجوانب الإيجابية للحقبة الشيوعية، وعلى رأسها توفير حاجاتهم الأساسية من وظائف ورواتب تقاعد وتعليم مجاني، والكثير من المنتجات الاستهلاكية، ما جعل المجر في حينه (الثكنة الأسعد) للكتلة الشرقية".

سحر بانورامي على أن سحر بودابست ورومنسيتها يتبديان في طلاتها البانورامية، وفي ليلها. فلا أجمل منها عندما يتسلل الغروب وتنطفئ الشمس على إنارة مدروسة صممتها شركات أجنبية استقدمت خصيصًا لهذا الغرض. وها هي المدينة تنكشف بأجمل حليها، وتتراقص على صفحات مياه نهر الدانوب. وللمدينة ونهرها طلات بانورامية كثيرة، من بينها تلة (غيليرت)، أو العجلة العملاقة (عين زيغيت)، أو من مرج صيادي السمك، أو حتى خلال تناول الطعام في مطعم (هالاسباستيا) المطل على الدانوب. ولاستكشاف معالم المدينة وكنوزها، يمكن القيام بذلك برًا في الباصات السياحية، أو بحرًا على متن سفن (دوناراما)، أو جوًا على متن هليكوبتر أو طائرة (إل إي- 2)، وهي الوحيدة في أوروبا التي ما زالت صالحة للاستعمال للأغراض السياحية.

مدينة المنتجعات الطبيعية ولا تكتمل زيارة بودابست من دون زيارة المنتجعات الاستشفائية الاستجمامية التي تشتهر بها البلاد، خصوصًا بوجود المياه الساخنة المعدنية التي جعلت من المجر إحدى الوجهات الرئيسة للسياح الذي يبحثون عن الاستشفاء والعلاج الطبيعي، ووصفت بـ (مدينة المنتجعات الطبيعية). فبسبب موقعها بين صدعين، تندفع موجات البحر من الجهتين لتستقر تحت أرض المجر، ونتيجة الضغط تسخن وتخرج إلى السطح على هيئة 118 ينبوعًا. ومن المنتجعات الأشهر في بودابست منتجع (زيتشنيي) الواقع في مبنى ضخم في الحديقة العامة (سيتي بارك)، وفيه برك خارجية وداخلية، وعلاجات التدليك المختلفة. كذلك تمتاز هذه المدينة بالحمامات التركية الأصلية التي تعود إلى القرون الوسطى، علمًا أن هذه الحمامات لم تعد موجودة في أي عاصمة أخرى في الاتحاد الأوروبي.

المطبخ المجري كما لا تكتمل الزيارة من دون تذوق المطبخ المجري الشهير بأسماكه المتنوعة ولحوم الغزلان والبط والإوز. ولا بد أن الكثيرين تذوقوا أكلة (الغولاش) أو سمعوا بها. ومن أشهر منتجات هذا البلد، الفلفل الحار (البابريكا) الذي ينتج على مستوى واسع ويعرف عالميًّا بجودته، كما تنتج الـ "فوا غرا" (كبد الإوز) و"الباتيه" بأنواعها.

واللافت في بودابست أنه برغم طموحها للتحديث والانفتاح على العالم، وهو ما يلاحظ من خلال انتشار بوتيكات الماركات العالمية، والمطاعم الراقية من جنسيات مختلفة، خصوصًا الأسيوية مثل (نوبو)، وتداول اللغة الانكليزية على نحو واسع، إلا أن مصدر فخرها وما تروج له هو ما تشتهر به أساسًا وما هو محلي ويعكس هويتها، مثل معالمها السياحية، ومنتجعاتها، ومطبخها، وحتى أزيائها. يضاف إلى ذلك اعتزاز المجريين بإرثهم الحضاري، فتسمعهم يقولون إن لديهم ثالث أكبر محطة أنفاق وثالث أكبر برلمان في العالم، وإنهم اخترعوا الكمبيوتر، في إشارة إلى جهود عالم الرياضيات المجري جون فون نيومان في هذا الصدد، وإنهم اخترعوا (منهج كودالي) لتعليم الموسيقى، ولعبة (مكعب روبيك) الأكثر مبيعًا في العالم، وقلم الحبر الجاف (بيرو). كما يتحدثون عن جائزة (بوليتزر) التي استحدثها جوزيف بوليتزر، المجري الأصل الذي كان أكبر ناشر للصحافة الأمريكية في التاريخ. ويضيفون أن مجلة (الناشينول جيوغرافيك) عدت خط (الترام 2) سابع أهم منظر في العالم.


عدد القراء: 10633

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-